فمجرد ذكر الأخذ من الشئ لا يوضح نوعه إلا ببيان زائد ، ولذلك أضاف الله سبحانه إلى قوله وإذ أخذ ربك من بني آدم الدال على تفريقهم وتفصيل بعضهم من بعض : قوله من ظهورهم ، ليدل على نوع الفصل والأخذ ، وهو أخذ بعض المادة منها بحيث لا تنقص المادة المأخوذ منها بحسب صورتها ولا تنقلب عن تمامها واستقلالها ، ثم تكميل الجزء المأخوذ شيئاً تاماً مستقلاً من نوع المأخوذ منه ، فيؤخذ الولد من ظهر من يلده ويولده وقد كان جزء ، ثم يجعل بعد الأخذ والفصل إنساناً تاماً مستقلاً من والديه بعد ما كان جزء منهما . ثم يؤخذ من ظهر هذا المأخوذ مأخوذ آخر وعلى هذه الوتيرة حتى يتم الأخذ وينفصل كل جزء عما كان جزء منه ويتفرق الأناسي وينتشر الأفراد وقد استقل كل منهم عمن سواه ، ويكون لكل واحد منهم نفس مستقلة لها ما لها وعليها ما عليها .
فهذا مفاد قوله : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، ولو قال أخذ ربك من بني آدم ذريتهم أو نشرهم ونحو ذلك ، بقي المعنى على إبهامه .
وقوله : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، ينبئ عن فعل آخر إلۤهي تعلق بهم بعد ما أخذ بعضهم من بعض ، وفصل بين كل واحد منهم وغيره ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، والإشهاد على الشئ هو إحضار الشاهد عنده وإراءته حقيقته ليتحمله علماً تحملاً شهودياً ، فإشهادهم على أنفسهم هو إراءتهم حقيقة أنفسهم ليتحملوا ما أريد تحملهم من أمرها ، ثم يؤدوا ما تحملوه إذا سئلوا .
وللنفس في كل ذي نَفَس جهات من التعلق والإرتباط بغيرها يمكن أن يستشهد الإنسان على بعضها دون بعض ، غير أن قوله : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، يوضح ما أشهدوا لأجله وأريد شهادتهم عليه ، وهو أن يشهدوا ربوبيته سبحانه لهم فيؤدوها عند المسألة .
فالإنسان وإن بلغ من
الكبر والخيلاء ما بلغ وغرته مساعدة الأسباب ما غرته واستهوته ، لا يسعه أن ينكر أنه لا يملك وجود نفسه ولا يستقل بتدبير أمره ، ولو