وعاد إلى عبادة ربه ، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله فعوتب.
وخامسها : أنه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبت ، وكان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيه ، ولايحكم عليه قبل ذلك ، وإنما أنساه التثبت في الحكم فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة. انتهى. (١)
وقال الرازي بعد رد الرواية المشهورة والطعن فيها وإقامة الدلائل على بطلانها و ذكر بعض الوجوه السابقة وتزييفها :
روي أن جماعة من الاعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليهالسلام وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا ووضعوا كذبا فقالوا : « خصمان بغى بعضنا على بعض » إلى آخر القصة. وليس في لفظ القرآن مايمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة : أحدها قوله : « وظن داود أنما فتناه » وثانيها : قوله : « فاستغفر ربه » وثالثها : قوله : « وأناب » ورابعها قوله : « فغفرنا له ذلك » ثم نقول : وهذه الالفاظ لا يدل شئ منها على ماذكروه ، وتقريره من وجوه :
الاول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق وعلم داود عليهالسلام دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم إلا أنه مال إلى التصفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضات الله تعالى ، فكانت هذه الواقعة هي الفتنة ، لانها جارية مجرى الابتلاء والامتحان ، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم ، وتاب عن ذلك الهم وأناب ، فغفرنا له (٢) ذلك القدر من الهم والعزم.
والثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه إلا أنه ندم على ذلك الظن ، وقال : لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الامر كذلك فبئس ما عملت بهم حين ظننت بهم هذا الظن الردئ ، فكان هذا هو المراد من قوله : « وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب » منه فغفر الله له ذلك.
__________________
(١) مجمع البيان ٨ : ٤٧١ ٤٧٢.
(٢) في المصدر : فغفر له ذلك.