« ذات متكلمة آمرة معطية ، وذات مخاطبة مأمورة متلقية » (١).
ولم تتشاكل في مظهر من مظاهر الوحي وظاهرته ، الذات المتكلمة والذات المخاطبة في قالب واحد ، ولم يتحدا في صورة واحدة على الإطلاق فهما متغايران.
إن ظاهرة الوحي الإلهي مرئية ومسموعة. ولكنها خاصة بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وحده فما اتفق ولو مرة واحدة ، أن سمع أصحابه صوت الوحي ، ولا حدث أن رأوا هذا الكائن الموحي ، ومع هذا فقد أدركوا صحة ما نزل عليه وصدق ما أوحي إليه ، بدلائل الإعجاز ، وقرائن الأحوال واعتبارات الاختصاص ، فالنفس الإنسانية وإن كانت واحدة في الأصل والجوهر ، ولكنها تختلف شفافية كما تختلف تخويلا من قبل الله تعالى ، فالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يرى ويسمع ويعي ما حوله من الظاهرة بيقين مرئي مشاهد ، ومن حوله لا يرون ولا يسمعون ولكنهم يصدقون ويؤمنون. وربما قيل : إن ما يتلقاه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الروح الأمين وهو رسول الوحي : « هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواس الظاهرة ، التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يرى ويسمع حينما يوحى إليه من غير أن يستعمل حاستي البصر والسمع .. فكان صلىاللهعليهوآلهوسلم يرى الشخص ، ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت غير أنه ما كان يستخدم حاستي بصره وسمعه الماديتين كما نستخدمها ، ولو كانت رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين لكان ما يجده مشتركا بينه وبين غيره ، فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمع والنقل القطعي يكذب ذلك ، فكثيرا ما كانت تأخذه برحاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه ، ومن حوله لا يشعرون بشيء ، ولا يشاهدون شخصا يكلمه » (٢).
وقد يفسر هذا بأنه ظاهرة ذاتية ، ولكن عمى الألوان (٣) مثلا يقدم لنا
__________________
(١) ظ : مالك بن بني ، الظاهرة القرآنية : ١٩٤ : صبحي الصالح ، مباحث في علوم القرآن : ٢٧.
(٢) الطباطبائي ، الميزان : ١٥ / ٣١٧ وما بعدها.
(٣) عمى الألوان قسمان : كلي وجزئي فالكلي هو العجز عن التمييز بين الألوان مع بقاء الاحساس البصري سليما من الاضطراب ، والجزئي هو العجز عن إدراك لون بعينه أو عن تمييز ذلك اللون عن غيره. ( ظ : المعجم الفلسفي : ٢ / ١٠٨ ).