الاعتدال والإنصاف غالبا ، فكيف يتم على يديه هذا النص المخجل : « وقيل إن محمدا كان مصابا بالصرع ولم أجد في تواريخ العرب ما يبيح هذا القطع في هذا الرأي ، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصر ومحمد وعائشة منهم ، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجهي فغطيط فغشيان ، وإذا عدوت هوس محمد ، ككل مفتون ، وجدته حصيفا سليم الفكر.
ويجب عد محمد من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كما هو واضح وذلك كأكثر مؤسسي الديانات ، ولا كبير أهمية لذلك فأولو الهوس وحدهم لا ذو المزاج البارد من المفكرين ، هم الذين ينشئون الديانات ويعودون الناس ، ومن يبحث في عمل المفتونين في العالم يعترف بأنه عظيم .. ولو كان العقل ، لا الهوس هو الذي يسود العالم لكان للتأريخ مجرى آخر ... ولا يقف أي قول بخداع محمد ثانية أمام سلطان النقد كما يلوح لي ، ومحمد كان يجد في هوسه ما يحفزه إلى اقتحام كل عائق ، ويجب على من يود أن يفرض إيمانه على الآخرين أن يؤمن بنفسه قبل كل شيء .. » (١).
وهذا دس رخيص ، وتناقض فاضح ، مزج فيهما السم بالعسل ؛ فبينا ينفي الصرع عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإذا به يثبت الهوس له ولينفي الوحي والرسالة جملة وتفصيلا.
وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نرصد في ظاهرة الوحي عملية إرسال واستقبال بوقت واحد ، إرسال بوساطة الملك المؤتمن ، واستقبال من قبل النبي المصطفى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يتم ذلك في حالة إدراك متماسكة ، يسيطر فيها الوعي والشعور والإحساس ، كما لو كان أمرا عاديا في يقظة حقيقية ، قبل الوحي وأثناء الوحي ، وبعد الوحي ، مهما صاحب عملية الوحي من شدة وطأة ومفاجأة ، فالوحي حقيقة خارجية مستقلة عن كيان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم النفسي ولكنها لا تغير ذلك الواقع النفسي ، بل تزيده جلاء وفطنة وذاكرة ويمثل فيها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دور المتلقي الواعي من جهة ، ودور المبلغ الأمين من جهة أخرى ، لا يقدم ولا يؤخر ؛ ولا يغير ولا يقترح ؛ ولا يفتر ولا يتكاسل.
__________________
(١) غوستاف لوبون ، حضارة العرب : ١٣٣ وما بعدها.