وهنا جهة أخرى أغفلها هؤلاء في بحثهم وهي أن الاجتماع الإسلامي شعاره الوحيد هو اتباع الحق في النظر والعمل ، والاجتماع المدني الحاضر شعاره اتباع ما يراه ويريده الأكثر ، وهذان الشعاران يوجبان اختلاف الغاية في المجتمع المتكون فغاية الاجتماع الإسلامي السعادة الحقيقية العقلية بمعنى أن يأخذ الإنسان بالاعتدال في مقتضيات قواه فيعطي للجسم مشتهياته مقدار ما لا يعوقه عن معرفة الله من طريق العبودية بل يكون مقدمة توصل إليها وفيه سعادة الإنسان بسعادة جميع قواه ، وهي الراحة الكبرى ( وإن كنا لا ندركها اليوم حق الإدراك لاختلال التربية الإسلامية فينا ) ولذلك وضع الإسلام قوانينه على أساس مراعاة جانب العقل المجبول على اتباع الحق ، وشدد في المنع عما يفسد العقل السليم وألقى ضمان إجراء الجميع من الأعمال والأخلاق والمعارف الأصلية إلى عهدة المجتمع مضافا إلى ما تحتفظ عليه الحكومة والولاية الإسلامية من إجراء السياسات والحدود وغيرها ، وهذا على أي حال لا يوافق طباع العامة من الناس ويدفعه هذا الانغمار العجيب في الأهواء والأماني الذي نشاهده من كافة المترفين والمعدمين ويسلب حريتهم في الاستلذاذ والتلهي والسبعية والافتراس إلا بعد مجاهدة شديدة في نشر الدعوة وبسط التربية على حد سائر الأمور الراقية التي يحتاج الإنسان في التلبس بها إلى همة قاطعة وتدرب كاف وتحفظ على ذلك مستدام.
وأما غاية الاجتماع المدني الحاضر فهي التمتع من المادة ومن الواضح أن هذه تستتبع حياة إحساسية تتبع ما يميل إليه الطبع سواء وافق ما هو الحق عند العقل أو لم يوافق بل إنما يتبع العقل فيما لا يخالف غايته وغرضه.
ولذلك كانت القوانين تتبع في وضعها وإجرائها ما يستدعيه هوى أكثرية المجتمع وميول طباعهم ، وينحصر ضمان الإجراء في مواد القانون المتعلقة بالأعمال ، وأما الأخلاق والمعارف الأصلية فلا ضامن لإجرائها بل الناس في التلبس بها وتبعيتها وعدمه إلا أن تزاحم القانون في مسيره فتمنع حينئذ.
ولازم ذلك أن يعتاد المجتمع الذي شأنه ذلك بما يوافق هواه من رذائل الشهوة والغضب فيستحسن كثيرا مما كان يستقبحه الدين ، وأن يسترسل باللعب بفضائل الأخلاق والمعارف العالية مستظهرا بالحرية القانونية.
ولازم هذا اللازم أن يتحول نوع الفكرة عن المجرى العقلي إلى المجرى الإحساسي