في الطبيعة الراجعة إلى الدوام والثبات أيضا إنما هي صفة الخارج الواقع وقوعا دائميا أو أكثريا دون العلم والإدراك ، وبعبارة أخرى هي صفة الأمر المعلوم لا صفة العلم ، فالوقوع الدائمي والأكثري أيضا بوجه من الحق ، وأما آراء الأكثرين وأنظارهم واعتقاداتهم في مقابل الأقلين فليست بحق دائما بل ربما كانت حقا إذا طابقت الواقع وربما لم تكن إذا لم تطابق وحينئذ فلا ينبغي أن يخضع لها الإنسان ولا أنه يخضع لها لو تنبه للواقع فإنك إذا أيقنت بأمر ثم خالفك جميع الناس فيه لم تخضع بالطبع لنظرهم وإن اتبعتهم فيه ظاهرا فإنما تتبعهم لخوف أو حياء أو عامل آخر لا لأنه حق واجب الاتباع في نفسه ، ومن أحسن البيان في أن رأي الأكثر ونظرهم لا يجب أن يكون حقا واجب الاتباع قوله تعالى : ( بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ ) : « المؤمنون : ٧٠ » فلو كان كل ما يراه الأكثر حقا لم يمكن أن يكرهوا الحق ويعارضوه.
وبهذا البيان يظهر فساد بناء اتباع الأكثرية على سنة الطبيعة فإن هذه السنة جارية في الخارج الذي يتعلق به العلم دون نفس العلم والفكر والذي يتبعه الإنسان من هذه السنة في إرادته وحركاته إنما هو ما في الخارج من أكثرية الوقوع لا ما اعتقده الأكثرون أعني أنه يبني أفعاله وأعماله على الصلاح الأكثري وعليه جرى القرآن في حكم تشريعاته ومصالحها ، قال تعالى : ( ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) : « المائدة : ٦ » ، وقال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) : « البقرة : ١٨٣ » إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على ملاكات غالبية الوقوع للأحكام المشرعة.
وأما قولهم : إن المدنية الحاضرة سمحت للممالك المترقية سعادة المجتمع وهذب الأفراد طهرهم عن الرذائل التي لا يرتضيها المجتمع فكلام غير خال من الخلط والاشتباه وكان مرادهم من السعادة الاجتماعية تفوق المجتمع في عدتها وقوتها وتعاليها في استفادتها من المنابع المادية وقد عرفت كرارا أن الإسلام لا يعد ذلك سعادة والبحث البرهاني أيضا يؤيده بل السعادة الإنسانية أمر مؤلف من سعادة الروح والبدن وهي تنعم الإنسان من النعم المادية وتحليه بفضائل الأخلاق والمعارف الحقة الإلهية وهي التي تضمن سعادته في الحياة الدنيا والحياة الأخرى وأما الانغمار في لذائذ المادة مع إهمال سعادة الروح فليس عنده إلا شقاء.