فإن قلت : في مكة فالنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لم يجهز جيشا ولم يبن مسجدا ، ومن يسلم من القوم يهاجره إلى الحبشة والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ غني بمال خديجة كما يروون.
وإن قلت : بالمدينة فأبو بكر هاجر ولم يملك من المال سوى (٦٠٠) درهم فترك لعياله شيئا وحمل معه ما بقي ونزل على الانصار ، فكان هو وكل من يهاجر عالة على الانصار ، ثم إن أبا بكر لم يكن من التجار بل كان تارة بزازا يبيع يوم اجتماع الناس أمتعته يحملها على كتفه ، وتارة معلم الاولاد وأخرى نجارا يصلح لمن يحتاج بابا أو مثله.
__________________
وجه وضعه؟ فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت ، وينسي ذكره ، وأنتم فلم تفقوا على شئ أكثر من عتقه بزعمكم ست رقاب لعلها لا يبلغ ثمنها في ذلك العصر مائة درهم ، وكيف يدعى له الانفاق الجليل ، وقد باع من رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بعيرين عند خروجه إلى يثرب ، وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال ، وروى ذلك جميع المحدثين ، وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا ، ورويتم عن عائشة أنها قالت : هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم ، وقلتم : إن الله تعالى أنزل فيه : (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى) النور / ٢٢ ، قلتم : هي في أبي بكر ومسطح بن إثاثة ، فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباأة؟ ورويتم أن الله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباءة وأن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ رآهم ليلة الاسراء ، فسأل جبرئيل عنهم ، فقال : هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الارض ، فإنه سينفق عليك ماله ، حتى يخلل عباءه في عنقه ، وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوي ، فقال : (يأيها الذين آموا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم) المجادلة / ١٢ ، لم يعمل بها إلا على بن أبي طالب وحده ، مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده ، وأبو بكر في الحال التي ذكرنا من لاسعة أمسك عن مناجاته ، فعاتب الله المؤمنين في ذلك ، فقال : (أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم) ، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه ، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة ، فكيف سخت نفسه بإنفاق إربعين ألفا ، وأمسك عن مناجاة الرسول ، وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين! الخ.