النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة ، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب ، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضج ذلك البخار وتلطّفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن ، وأن القوة الحسّاسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب ، فكان هذا البخار حمّالا لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح ، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العرض الذي يسمّى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع ، من حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرواح الشهداء في حواصل طيور معلّقة تحت العرش. ولقوله تعالى : (وَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا ، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في دعائه عند النوم «إن أمسكتها فاغفر لها وإن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين» فقالوا : ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عرض لا يمكن إرسالها.
والتفتوا أيضا إلى قوله تعالى (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) فلم لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا
__________________
(١) سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.
(٢) سورة الإسراء ، الآية ٨٥.