والغريبة عن الفكر الإسلامي وعقليته. فالمسلمون لم يعوا الحدّ إلاّ في دوره الاسمي المميّز بين الألفاظ.
لقد اقتصر التوجّه بالمعيار نحو بعض الأمثلة الفقهية ، وكانت بمثابة التمهيد للمحكّ ، إذ يقول الغزالي : «رغبنا ذلك أيضا في أن نورد في منهاج الكلام في هذا الكتاب أمثلة فقهية فتشمل فائدته ، وتعمّ سائر الأصناف جدواه وفائدته. ولعل الناظر بالعين العوراء ، نظر الطعن والإزراء ، ينكر انحرافنا عن العادات في تفهيم العقليّات القطعية بالأمثلة الفقهيّة الظنيّة.
فليكف عن غلوائه في طعنه وإزرائه ، وليشهد على نفسه بالجهل بصناعة التمثيل وفائدتها. فإنها لم توضع إلا لتفهيم الأمر الخفيّ بما هو الأعرف عند المخاطب المسترشد ، ليقيس مجهوله إلى ما هو معلوم عنده ، فيستقر المجهول في نفسه ... (١).
فاقتصر غرضه على إعطاء الأمثلة الفقهية ، لاستساغة الأمور العقلية لا أكثر ويعترف بأنه يقوم بصناعة فكرية للتفهيم. بينما الأمر في «المحك» يختلف تماما ، فثمة تجاف وتباعد عن غرض التقليد والاتّباع ، ـ قاصدا اتّباع ابن سينا ـ واقتراب إلى الإبداع وتأليف المنطق الإسلامي الذي يرشد إليه نور اللّه والاستبصار المعرفيّ. «وما أحوج إلى هذا من ركب متن الخطر في الارتفاع عن حضيض التقليد ، مع سلامة مغبّته إلى يفاع الاطّلاع والاستبصار ، مع خطر عاقبته وتفاقم غائلته. فإن لم يره الحق حقا ، كان نظره كلّه هباء ، وإن لم يوفّقه للعمل بما علمه كان جهده كلّه عناء ...» (٢).
وبدل أن يسمّي مبحث الحدّ تصوّرا يسمّيه في المحك المعرفة. ويصرّح بأن المعرفة متأتّية من اللغة العربية. و «يقول النحاة أن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد ، إذ يقول عرفت زيدا ، والظنّ يتعدّى إلى مفعولين ، إذ تقول
__________________
(١) الغزالي ، المعيار ، ص ٢٧.
(٢) الغزالي ، المحك ، ص ٣ ـ ٤.