وكان أن وضّح الغزالي مثاله عن الخمرة ودور العلة ، قائلا : «إنّ في هذا القياس مقدّمتين إحداهما قولنا لكلّ نبيذ مسكر والأخرى قولنا كلّ مسكر حرام» (١). فالنتيجة : إنّ النبيذ حرام. وقياس التعليل هذا عند الأصوليين مرده إلى أنّ النبيذ محرّم قياسا على الخمر ، والعلّة الجامعة أو الحدّ المشترك هو الإسكار. ويظهر ذلك أيضا في جواب المطالب ، «لم» يكون النبيذ حراما؟ لأنّه مسكر.
ولم تكن مسألة التماس العلّة واجتلابها مجرّد اصطلاح يدخل على الشروح توفيقا وتجميعا ، إنّما كان تطويعا للمنطق بالأصول ، وتمثّله على ضوء المعطيات والسمات الإسلامية. وتعني العلّة في الأصول في ما تعنيه : أنّ هناك الأصل وهناك الفرع ، وما يجمع بين الأصل والفرع أو بين الشاهد والغائب هو العلّة. وكان هذا رأي الجويني في البرهان (٢). ـ علما أنّ الجويني ، أستاذ الغزالي ، كان قد نقد بعض آراء المنطق الأرسطويّ وتبنّى آراء أخرى (٣) ـ فسار التلميذ على المنوال نفسه ، موسّعا دائرة تبنّي القالب الأرسطويّ ، وكيّفه في خدمة العلوم الإسلاميّة ، كما يظهر تدريجيّا خلال استعراض القياس في كتبه. وما يمكن قوله إنّ استغناء الغزالي عن استعمال الحدّ الأوسط واستعاضته عنه بالعلّة يعتبر تحوّلا تامّا في النظرة ، وتحويلا للمنطق نحو المفاهيم الأصوليّة. فلقد تعدّت العمليّة مجرّد إعطاء الأمثلة الفقهيّة وتطعيم الألفاظ ، مثلما كان الأمر في المعيار. وبلغ المزج طورا أحدث بنية تركيبيّة جديدة على صعيد المضمون والمصطلح والأبعاد. إذ العلة للجمع بين الأصل والفرع ، أمّا الأوسط فللتداخل بين الأصغر والأكبر ـ ولا ينفي هذا عدم استعمال ابن سينا العلّة حدّا أوسط. لكن ذلك كان في حكم النقل عن أرسطو ـ ولكلّ منها أبعاد منطقيّة.
__________________
(١) الغزالي ، المحكّ ، ص ٣١.
(٢) أنظر النشار ، مناهج البحث ، ص ١٣٠ ، نقلا عن مخطوط البرهان للجويني.
(٣) المرجع نفسه ، ص ٧٧ ، استنادا إلى مخطوط البرهان.