وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغك وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلا وينفي الحالة المسمّاة إبصارا ، ولما كنت تحسّ في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفة بها تهيأ للتخيّل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشئه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل.
ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به ، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء ، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه ، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه ، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانيا كرؤيته له أولا ، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمّى عقلا ، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيّلات مباين لإدراك التخيّل مباينة أشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر ، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطا لبقاء الإبصار ولم يكن شرطا لبقاء التخيّل ، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البعد وذلك الشكل والوضع ، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تسمّى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان ، وربما ركّب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس ، وربما صوّر إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدّه وصورة الطيران وحدّه ، وهذه