القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال ، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياء لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيّل للإبصار ، إذ ليس للتخيّل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها ، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل ، فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا ، وإنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة ، وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل ، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين ، وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية وغيرهما ، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما ، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب ، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزها عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود ، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام ، ويعبّر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة ، وقد دارت فيه رءوسهم وتاهت عقولهم ، والعجب أنه أول منزل ينفصل به