عليه قوله تعالى (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) فاستثنى ذلك مما أحله تعالى لبنى إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم* فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم* موقع المصلحة في الحظر والإباحة إذ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده* قيل هذا جائز بأن يأذن الله له فيه كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدى إليه الاجتهاد حكما لله تعالى وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام أما من جهة النص أو الاجتهاد وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توقيفا من الله له في إباحة التحريم له إن شاء وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه ولو كان ذلك عن توقيف لقال إلا ما حرم الله على بنى إسرائيل فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد* وهذا يدل على أنه جائز أن يجعل للنبي صلّى الله عليه وسلّم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره والنبي صلّى الله عليه وسلّم أولى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأى وقد بينا ذلك في أصول الفقه* قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وذلك لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم مارية على نفسه وقيل أنه حرم العسل فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئا من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفارة يمين بمنزلة من حلف أن لا يأكل هذا الطعام إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه وهو أن القائل والله لا أكلت هذا الطعام لا يحنث إلا بأكل جميعه ولو قال قد حرمت هذا الطعام على نفسي حنث بأكل جزء منه لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحنث بأكل الجزء منه بمنزلة قوله والله لا آكل شيئا منه لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء