أحكام الله تعالى والثالث أن باطن ضمائرهم مرضى عند الله تعالى لو لا ذلك لم يأمره بمشاورتهم فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدى به الأمة بعده صلّى الله عليه وسلّم في مثله وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطبيب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدى الأمة به في مثله لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فيه وصواب الرأى فيما سئلوا عنه ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه لم يكن في ذلك تطبيب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها فهذا تأويل ساقط لا معنى له فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدى به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل بشيء أشاروا به فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياهم وإذ قد بطل هذا فلا بد من أن تكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم معهم ضرب من الارتئاء والاجتهاد فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وجائز أن يوافق رأى بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأى جميعهم فيعمل صلّى الله عليه وسلّم حينئذ برأيه ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنقين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أمروا به ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتباع رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا بد من أن تكون مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم إياهم فيما لا نص فيه إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلّى الله عليه وسلّم بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة العدو وإن لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم تدبيره في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره صلّى الله عليه وسلّم من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه وإذا كانت مشاورته لهم في محاربة العدو ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين ولا