ويخاطب داود عليهالسلام فيقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ... ) (١) وبعد هذا ، بعد أن يخبر عن خلافته لله تعالى في الأرض ، لا بالغَلَبة ، ولا بالشورى ، ولكن بجعل من الله تعالى ، يقول على الفور : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ! (٢).
ويخاطب سيد البشر وخاتم النبييّن بما يغلق أمام الناس بعده كلّ منافذ الغلوّ لو أنّهم يعقلون ، فيقول : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ) (٣).. وهو قادر أن يقول : « قل أنا بشر » ويتمّ المعنى ، ولكن هذا التأكيد ثمّ الحصر بـ « إنّما » ثمّ التمثيل بـ « مثلكم » أبلغ تعبير في تثبيت المعنى وقطع كل الطرق أمام الشبهات والجهالات.
وإلى أكثر من هذا ذهب النبي صلىاللهعليهوآله ، فأكّد أنّ الغلوّ لا ينحصر بعبادة البشر ، بل هو حاصل حتّى في التشدّد والتطرّف بالعبادات ، فما جاوز فيها السنّة فهو غلوّ.. حدّث الفضل بن العباس ، فقال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوآله غداة يوم النحر : « هات فالتقط لي حصىً » فلقطت له حُصيّات مثل حصى الخذف ، فوضعهنّ في يده فقال : « بأمثال هؤلاء ، بأمثال هؤلاء ، وإيّاكم والغلوّ ، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوّ في الدين » ! (٤)
_____________
(١) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.
(٢) سورة ص : ٣٨ / ٢٦.
(٣) سورة الكهف : ١٨ / ١١٠.
(٤) الطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، السنن الكبري / البيهقي ٥ : ١٢٧ ، السيرة النبوية / ابن كثير ٤ : ٣٧١.