والحقّ أنّنا لو تقدّمنا في عمق التاريخ لوجدنا هذه المقولة قد تقدّمت عصر معاوية في ظهور سابق بها على لسان عمر بن الخطاب ، وهو يردّ على ابن عباس تذكيره بإرادة رسول الله صلىاللهعليهوآله في تنصيب عليّ لخلافته ، فيقول : وماذا كان ، إذا أراد رسول الله شيئاً وأراد الله شيئاً غيره ؟!
وفي الحالين كان (نظام الغَلَبة) هو الباعث إلى هذه المقولة !
ولقد حاول معاوية أن يجعل منبره منبراً لهذه العقيدة ، لكنه اصطدم في أول محاولة له بعقلٍ حرّ أفسد عليه حيلته : خطب معاوية خطبةً قال فيها : إنّ الله تعالى يقول : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (١) فعلامَ تلومونني إذا قصّرتُ في إعطائكم ؟!
فقال له الأحنف بن قيس : إنّا والله ما نلومك على ما في خزائن الله ، ولكن على ما أنزله لنا من خزائنه فجعلتَهُ أنتَ في خزائنك وحُلتَ بيننا وبينه ! (٢)
عندئذٍ أخذتْ هذه العقيدة تتمدّد وتنتشر بالسبل الاُخرى وبدعم صريح من السلطة حتّى صار لها نفوذ واسع في وقت مبكّر جداً.
ـ قيل لابن عبّاس : إنّ هاهنا قوماً يزعمون أنّهم أتوا ما أتوا من قِبل الله تعالى ، وأنّ الله أجبرهم على المعاصي !
فقال : لو أعلم أنّ هاهنا منهم أحداً لقبضتُ على حلقه فعصرته حتّى تذهب روحه ، لا تقولوا أجبر اللهُ على المعاصي ولا تقولوا لم يعلم الله ما العباد
_____________
(١) سورة الحجر : ١٥ / ٢١.
(٢) ربيع الأبرار / الزمخشري : ٦٨٣ ـ منشورات الشريف الرضي ـ قم ـ ١٤١٠ هـ.