والمسافات ، والأصوات. هل فكّرت كيف يميّز الإنسان بأذنه بين الأصوات المختلفة ، يقيس ـ مثلا ـ صوتين متقاربين لأخوين ، بل صوت الإنسان الواحد في حالتين أو مرحلتين ، حينما يستيقظ من نومه ، وحينما يكون مريضا .. ولو أنّك قارنت بين أكثر المسجّلات تطوّرا وبين الأذن ، أو بين المصوّرات المتقدمة وبين العين ، لوجدت حواس الإنسان تتميّز بدقة الموازين ، وهذه الموازين عكسها الإنسان في صور محسوسة ، فصنع للثقل ما يسمّى بالميزان ، وللمسافات المتر والذراع وما إلى ذلك ، وللزمن الساعة ، وللحرارة والرطوبة مقياسا آخر ، كما وضع قوانين وأنظمة تجسّد موازين العدل والأخلاق والقيم والأعراف. إذن ربّنا هو الذي خلق الموازين في الطبيعة ، إذ خلق كلّ شيء بحسبان وقدر ، ضمن زمن ، وحجم ، ولون ، وشدّة ، وضعف ، وعدد من الموازين الأخرى ، وعكس ذلك في ضمير الإنسان وحواسه وعقله.
وهناك علاقة بين رفع السماء ووضع الميزان في الآية الكريمة ، فالسماء رفعت بالميزان ومن أجل الميزان (القوانين والأنظمة الطبيعية الخاصة بها) ، ولولاها لكانت تقع على الأرض ، وهكذا كلّ شيء في الحياة ، فحياة الإنسان تستحيل عذابا لو لم يلتزم بالميزان ، لذلك يؤكّد ربّنا مباشرة بعد هذه الآية وبآية أخرى على ضرورة احترامه وإقامته.
إنّ الله وضع الميزان في الطبيعة ، ولكنّ رحمته لا تتجلّى فيها فقط بل على يد الإنسان أيضا ، فهو بحكم حريته قد ينغّض صفو الأمن على نفسه ويفسد السلام ، كما أنّه يستطيع أن يساهم في جلب السلام والسعادة إليها لتتجلّى رحمانية الله على يديه ، وذلك إذا لم يطغ في الميزان وأقامه بحق ، فلم يسرف في الأكل والشرب ، ولم يبذّر في الصرف ، ولم يستهلك أكثر ممّا ينتج ، ولم ينم أكثر من حاجته ، بل أقام الوزن في جوانب حياته الشخصية والاجتماعية.