صلب جاس يتناول به طعمه فلا ينسجح من لقط الحب ، ولا يتقصف من نهش اللّحم ، ولّما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب (أي يبتلعه ويسرع الطيران) صحيحا واللّحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ ؛ واعتبر ذلك بأن عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا ، ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ، ثمّ جعل مما يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فانّه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران ، فجعل كلّ شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدّر أن يكون عليه ..»
تأمل ريش الطير كيف هو؟ فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ، ثمّ ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشقّ لتداخله الريح فيقلّ الطائر إذا طار ، وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته ، وهو القصبة التي هو في وسط الريشة ، وهو مع ذلك أجوف ليخفّ على الطائر ولا يعوقه عن الطيران (١)
[٢٠] ولا شك أنّ ذلك الجهل بواقع الحياة هو جهل بآيات الله سبحانه ، ممّا يدعو الإنسان إلى التكذيب بالحق والكفر بربه ، وبالتالي أن يشرك به الأنداد المزعومين ، ظنّا منه بأنّه قادر بواسطتهم على الفرار من سلطان الله القاهر وعلى التهرب من مسئولية الحق ، الأمر الذي يجعله يعيش في الحياة من دون قيد أو ضابط ، ولكنّ القرآن ينسف هذه الأفكار والمزاعم من جذورها مبيّنا بأنّها ليست سوى نشوة من الغرور الجامح.
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ)
__________________
(١) بحار الأنوار / توحيد المفضّل / ج ٣ ص ١٠٣.