وبما يكتبه سطرا بعد سطر ، أو بما يسطّره من العلوم الحقّة ، فإنّ العلم هو الآخر عظيم وحريّ أن يقسم به ، وهكذا يأتي قسم القرآن بالقلم والعلم تمهيدا لتفنيد تهمة الكهانة والسحر والشعر من رسالة الله. وليعلم الناس أنّ العقل والوحي صنوان ، وأنّ الرسالة والعلم كجناحي طائر تحلّق به الإنسانية عاليا ، وأنّ ما يتقوّله أدعياء الدين بأنّ العلم ليس منه هراء ، وما يزعمه أدعياء العلم بأنّه يتنافى مع الدّين ضلال بعيد .. فها هو الكتاب يشيد بالعلم وبما يكتب به.
ونستوحي من كلّ ذلك أنّ موقع القلم هو خدمة الدين والعلم لا تضليل الناس أو استعبادهم ، ولا يكون ذلك إلّا إذا تسلّح به المؤمنون وبادروا للانتفاع به قبل الجبّارين ومرتزقتهم السفلة.
[٢] ويربط الوحي بين حقيقة العلم الذي يسطّره القلم وحقيقة الرسالة ، وقد ظهرت هذه الصلة مرة أخرى في سورة العلق عند قوله تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (١) فما هي العلاقة بين الأمرين؟
إنّ هذا الربط يكشف بصيرة مهمة وهي علاقة العلم بالإيمان ، وبتعبير آخر علاقة العقل بالوحي ، ذلك أنّ العقل هو الذي يذكّرنا بالوحي ويهدينا إليه ، كما أنّ الوحي هو الذي يستثير العقل ويستخرج كوامنه ويوجه مسيرته نحو الحق. وإنّ من يتعلّم ويقرأ تجارب العقل البشري عبر التاريخ لا ريب يهتدي إلى أنّ الرسالة الإلهية ليست جنونا ، ولا إلقاءات الشيطان ، ولا أساطير الأوّلين ، وأنّها لا يمكن أن تتنزل إلّا من ربّ العالمين ، لو أنصف الحق من نفسه وقصد سواء السبيل. إلّا أنّ المكذبين يكيلون التهم الباطلة التي يرفضها كل عاقل ليبرروا رفضهم للحقيقة ، وتهربهم من المسؤولية التي تفرضها. ثم هل اكتفوا بذلك؟ كلّا .. لقد حاولوا
__________________
(١) العلق / ٣ ـ ٥.