إنّ الجزاء في الآخرة هو الصورة الحقيقية لعمل كلّ إنسان في الدنيا ، فهو في الواقع الذي يطعم نفسه هناك ما يقدّمه هنا ، فالمؤمنون يأكلون من قطوف الجنات العالية بما أسلفوه من الصالحات ، والمجرمون يأكلون طعام الغسلين بما قدّموا من الخطيئات والمعاصي.
(لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ)
فهم إذن كما وصف الله : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) (١) حيث يمارسون الخطيئات ، ولكنّهم ـ وقد عميت بصائرهم عن الحق ـ لا يرون ذلك إلّا في الآخرة حين تقع الحاقّة وتكشف الحجب عن كلّ حق كشفا معنويّا وماديّا.
[٣٨ ـ ٤١] وفي الفصل الأخير من هذه السورة التي سمّيت بالحاقة يوجّهنا الله إلى كتابه العظيم الذي يذكّر بها ويسبقها في الهداية إلى الحق وإحقاقه ، وكأنّ السياق يقول لنا بأنّ القرآن حاق لأنّه كالحاقة يجلّي كلّ الحقائق. كما أنّه تعالى أخّر الحديث عن أصحاب الشمال على الحديث عن أصحاب اليمين ليكون لصيقا بكلامه عن كتابه ، وذلك لأنّ الحديث عن أصحاب النار سوف يستثير في السامع السؤال عن النهج الذي فيه الخلاص من غضب الله وعذابه ، والفوز بأجر أهل اليمين وعيشتهم الراضية.
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ)
والتمهيد لأيّ حديث بالقسم أو بالإشارة للقسم يؤكّد أهميته وعظم شأنه ، وإذ لا يقسم الله فذلك يدلّ على أنّ ما يريد قوله وبيانه غاية في الوضوح ، بحيث لا يحتاج لإقناع الآخرين به إلى القسم ، ولكنّه في الأثناء يلفتنا إلى حقيقة عملية
__________________
(١) النساء / ١٠.