واقعية ، وهي : أنّ الحياة لا تتلخّص في ما يراه الإنسان ببصره ، بل لها جانبان : جانب ظاهر يحضر عنده بحواسه المادية ، وآخر خفي مغيّب يحتاج إلى العلم والبصيرة النافذة لكي يشاهده ، وكأنّه بذلك يستحثّنا نحو توسيع معارفنا والتطلّع إلى الوجه الآخر من الحياة ، فهل نكفر بوجود الميكروبات والفيروسات لأنّنا لا نراها بأعيننا؟ كلّا .. لأنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا ، فهي موجودة رغم ذلك .. وهكذا فإنّ من يكفر بالآخرة لأنّه لا يراها بعينه فإنّه من الخاطئين (١).
ومن هذه الزاوية يوصل القرآن الآيتين الآنفتين بتأكيده على أنّ الرسالة ليست من بنات أفكار النبي (ص) ، إنّما هي متصلة بالغيب حيث جبريل الأمين يتنزّل بمفرداتها كلمة كلمة وبحروفها حرفا حرفا ، بل وبحركاتها دون نقيصة أو تغيير ، فإنّ للرسالة جانبين : ظاهرا يتمثّل في القرآن الذي يبصره الناس بأعينهم وتدركه حواسهم ، وغيبا لا يبصرونه ولا يدركونه ولا ينبغي لهم ذلك وهو جبرئيل الواسطة بين المرسل والرسول ورب العالمين الذي يتنزّل من عنده القرآن ، وعدم إبصارنا بالجانب الغيبي منها لا يبرّر الكفر بها ، وذلك لسببين :
الأول : أنّ قصور الإنسان عن الإحاطة علما بغيب الحياة من المسلّمات البديهية التي يقبلها كلّ عاقل ، وهكذا لا يمكن للبشر الإحاطة بالوحي الالهي ، وبذلك ينسف القرآن الشيئية المادية عند البعض ، كالذين كفروا بالرسالة لأنّهم لم يروا جبرئيل (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) (٢) (أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) (٣).
الثاني : أنّ الجانب الظاهر (القرآن) دليل قاطع يهدي كلّ ذي عقل إلى
__________________
(١) تقدّم الحديث حول القسم في الآية ٧٥ من سورة الواقعة فراجع.
(٢) الأنعام / ٨.
(٣) هود / ١٢.