وفي هذا دلالة على أنّهم كانوا مقلّدة حتى سمعوا الحجة ، وانكشف لهم الحق فرجعوا عمّا كانوا عليه ، وفيه إشارة إلى بطلان التقليد ، ووجوب اتباع الدليل (١).
وكلتا الصفتين نتيجة لإلغاء دور العقل وفقدان الاستقلال بالتوافق مع تيّار المجتمع والتبعية العمياء له. إلّا أنّ القرآن الذي أنزله الله لإثارة دفائن العقول فجّر فيهم لمّا استمعوا آياته كوامن قدراتهم ، العقلية والروحية ، وخلق في أنفسهم إرادة التحرّر من أغلال السذاجة والجهل والتبعية ، وإرادة التحدي للانحراف بكلّ كيانه قيما (السفه) وأشخاصا (السفهاء). إنّ مشكلة الكثير من الإنس والجن أنّهم يتخذون الأشخاص لا القيم مقياسا ، فمتى ما ضلوا أولئك وانحرفوا ضلّوا وانحرفوا معهم ، بينما يجب أن تكون القيم هي المقياس ، لأنّها الضمانة الأصيلة والوحيدة لمعرفة الحق والاستقامة على هداه.
وفيما يتصل بالكذب تهدينا الآية إلى أنّ الإنسان يرفضه ويستقبحه بالفطرة بحيث لا يتصور أنّ أحدا يجرأ على التورّط فيه ، وهذا ما يجعله فريسة للكذّابين المرّة بعد الأخرى.
[٦ ـ ١٠] ثم يحدّثنا النفر بآية محورية عن التظاهر بين بعض الإنس وبعض الجن على الباطل ، كصورة من صور الشرك لدى بعض أبناء حوّاء ، حيث الهالة الكبيرة من الأساطير والأوهام تدعوا البعض إلى الإعتقاد بأنّ الجن قوى خارقة لديها العلم والقدرة المطلقين ، مما يحدو بهم إلى الاتصال بالجن وطلب العون منهم. ويجهلون أنّ الأمر على العكس ، يضيف جهلا إلى جهلهم وتعبا إلى تعبهم ، إلى حدّ الرهق الشديد.
(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً)
__________________
(١) مجمع البيان / ج ١٠ ـ ص ٣٦٥.