الثالثة ، والشياطين يسترقون السمع ، فلمّا رأوا العجائب أرادوا أن يسترقوا السمع فإذا بهم قد حجبوا عن السموات كلّها» (١) إذن فمن يدّعي معرفة الغيب من الكهنة والمنجّمين باعتبارهم يتصلون بالجن فإنّما يزعمون باطلا حيث حجبوا باعترافهم أنفسهم.
والسورة الكريمة تهدينا إلى طبيعة المنهج القرآني الواقعية ، فآياته لا تدور في الفراغ ، ولا تطرح الأساطير كما يقول الكفّار والمشركون ، وإنّما يعالج قضايا ومشاكل نفسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية حقيقية ، وحيث تنزّلت سورة الجن فمن أجل اجتثاث جذور الكهانة والشرك بالجن والشياطين ، وهكذا يعالج القرآن تلك النظريات الشائعة في المجتمعات. ولعل سائلا يقول : وهل عالج القرآن المذهب الوجودي والماركسي وغيرهما من الفلسفات التي تجدّدت في القرون الأخيرة؟ ونقول : بلى. لأنّ هذه المذاهب ليست إلّا تطويرات للنظريات القديمة ، فقد كانت الوجودية موجودة تاريخيّا وإن كانت بصورة أخرى مبثوثة في الأفكار اليونانية التي دعت الإنسان لإثبات وجوده والالتذاذ الدائم ، وهي مشابهة لدعوة سارتر وتلامذته الآن ، كما كانت الفلسفة الاشتراكية حاضرة في عهد من عهود إيران تحت عنوان (المزدكية) وهي اشتراكية بلغت حدّ الشيوعية والإباحية.
وتخصيص القرآن سورة باسم الجن صورة حيّة لواقعيته ، لأنّ استعاذة رجال من الإنس بهم وتلقّيهم لهمزاتهم كان ولا يزال من الأسباب الرئيسية لانحراف البشر وضلالهم عن الحق ، حيث الخلط بين تلك الإلقاءات وبين الوحي. وما فلم (الوساوس الأخيرة للسيد المسيح) وكتاب (الآيات الشيطانية) إلّا دليل على الجهل بالوحي ، ومن ثمّ الخوض في شأنه بغير علم.
__________________
(١) نور الثقلين / ج ٥ ـ ٤٣٦ عن الإحتجاج عن الإمام علي (ع).