والتطلع إلى معرفة الغيب من الدوافع الملحّة للإنسان نحو الاتصال بأيّ جهة يتوقّع معرفتها به لعلّه يعلم بعضه ، ولكنّ قسما من الناس يخطئون إذ يعوذون بالجن بدل أن يربطوا أنفسهم بوحي الله ، مع أنّهم لا يعلمون من الغيب شيئا ، وما أدلّ على ذلك من اعترافهم أنفسهم بهذه الحقيقة.
(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)
إنّهم بهتوا بالإرهاصات والتحوّلات الكونية التي رافقت بعث خاتم الأنبياء ، كامتلاء السماء حرسا وشهبا ، وعجزهم عن استراق السمع بعدئذ ، فلم يستوعبوا الأمر ، وتخبّطوا في تفسير تلك الظواهر هل هي شر لّسكّان الأرض كأن تكون من أشراط الساعة أم خير أراده الله؟! وهذا يؤكّد قصورهم عن علم الغيب ، وجهلهم بتفسير الظواهر الكونية المتجدّدة كما يجهلون كثيرا من تلك الظواهر ، فلا ينبغي التعويل عليهم في تفسير شيء من الظواهر كالمرض والفقر والهزيمة وما أشبه مثلما هو شأن بعض المستعيذين بهم. ولا ريب أنّ بعث الرسول (ص) خير عظيم لمن في الأرض ، حيث ينقذهم برسالته وقيادته من ظلام الباطل والضلال والجهل ، إلى نور الحق والهدى والعلم ، وهكذا منع الشياطين من الاستراق نعمة عظيمة لهم حيث يزول السبب الذي تتشاكل به حقائق الوحي وتتشابه مع أباطيل الجن. قال ابن جريح : قالوا : لا ندري لم بعث هذا النبي ، لأن يؤمنوا به ويتبعوه فيرشدوا ، أو لأن يكفروا به ويكذّبوه فيهلكوا كما هلك من قبلهم من الأمم؟ (١) ، وقيل معناه : أنّ هذا المنع لا يدرى العذاب سينزل بأهل الأرض أم لنبيّ يبعث ويهدي إلى الرشد ، فإنّ مثل هذا لا يكون إلّا لأحد هذين الأمرين (٢). قال العلامة الطباطبائى : وقد صرّحوا بالفاعل لإرادة الرشد وحذفوه في جانب الشر أدبا ، ولا يراد شر من جانبه
__________________
(١) الدر المنثور / ج ٦ ـ ص ٢٧٣.
(٢) مجمع البيان ج ١٠ ـ ص ٣٦٩