(وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً)
لأن إرادته تعالى ليست محدودة بالأرض حتى يفلت من يطير إلى غيرها من إرادته ، ويعجزه سبحانه ، إنّما هيمنته شاملة للوجود كلّه دون استثناء أو فرق بين كوكب وآخر ، ولا بقعة وبقعة أخرى. قال الزمخشري : أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنّا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء (١).
والظن في الآية ليس بمعنى الشك ، فإنّ الجن على يقين تامّ علميّا بأنّهم لا يعجزون ربّ العزة ، بل هو بمعنى اليقين الذي يصل إلى حدّ التصور والاستحضار للحقيقة بالظن وكأنّها حقيقة مادية قائمة ، أي تركيز قوة التخيّل والتصور بصورة شديدة.
[١٣] ولقد عرف النفر من الجن أنفسهم المحدودة بالجهل والعجز فتحسسوا الحاجة الفطرية الملحّة بضرورة الاستعاذة بالخالق المتعالي عن أيّ عجز أو حدّ فعرفوا ربهم فاتخذوا معرفة النفس وسيلة لمعرفة الرب. أوليس من عرف نفسه فقد عرف ربه كما في الحديث؟ فآمنوا به ، وراحوا يعوذون به إيمانا منهم بأنّ الاطمئنان والسعادة لا يوجدان إلّا عنده عزّ وجلّ.
وحيث سمعوا آيات الذكر الحكيم وهم في مخاض الشك المنهجي والبحث عن سبيل الرشاد أصغوا لها مسامع قلوبهم ، وسلّمت لحقائقها أفئدتهم ، فآمنوا به.
(وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ)
ولعلنا نستشف من هذا المقطع أنّ المتكلمين كانوا يعانون من مشكلة التعتيم
__________________
(١) الكشاف / ج ٤ ـ ص ٦٢٧.