تعرّف ما هو أولى وحق ، وفي الحديث : «تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر» أي تعمّدوا طلبها فيها (١).
وعلى هذا التفسير للكلمة يكون المعنى أنّ من اختار الإسلام وسلّم له فقد جانب الرشد والهدى ، وهذا مسلّم به لأنّه حينئذ سيهديه الله بنور الوحي وآيات الرسالة ، ممّا يكمل عقله وعلمه فيجعله راشدا. والآية تأكيد على أنّ الإسلام ليس مجرد تسليم النفس للحق ، بل هو إضافة إلى ذلك وعي الحق بعد البحث عنه طلبا للرشد.
(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
ومن هنا نهتدي إلى أنّ أظهر معاني (تحرّي الرشد) طلب النجاة من النار ومن غضب الله ، بمعرفة طريق الهدى بالنفس والعقل ، وكذلك بتجنّب الذنوب والخطايا والقيام بالصالحات ، وذلك ما لم يفعله القاسطون ممّا أدّى بهم إلى العذاب. ولا يقول القرآن أنّهم سيكونون حطبا لجهنّم ، بل قال «كانوا» بصيغة الماضي ، والسبب أنّ مرتكب الذنوب والفواحش قد جعل نفسه وقودا للنار لحظة اقتحامها بالفعل. قال الزمخشري : القاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق ، ونقل طريفة عن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ : أنّ الحجاج قال حين أراد قتله : ما تقول فيّ؟ قال : قاسط عادل ، فقال القوم : ما أحسن ما قال! حسبوا أنّه يصفه بالقسط والعدل ، فقال الحجّاج : يا جهلة! إنّه سمّاني ظالما مشركا ، وتلا قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ) وقوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (٢).
وجرى جدل بين المفسرين في عذاب الجن ، فقد أجمعوا على إمكان تعذيب
__________________
(١) تفسير البصائر ج ٤٩ ص ٣٢٠ / ٣٢١.
(٢) الكشاف ج ٤ ص ٦٢٨.