القاسطين من الإنس بجعلهم حطبا لجهنم ، ولكنّهم اختلفوا في كيفية تعذب الجن بالنار وهم من جنسها ، فقال بعضهم كالفخر الرازي : إنّهم وإن خلقوا من النار لكنّهم تغيّروا عن تلك الكيفية وصاروا لحما ودما هكذا (١) ، ومن أطرف ما قرأته في هذا الشأن : أنّ بهلول أتى إلى المسجد يوما وأبو حنيفة يقرّر للناس علومه ، فقال في جملة كلامه : إنّ جعفر بن محمد تكلّم في مسائل ما يعجبني كلامه فيها : الأولى : يقول : إنّ الله سبحانه موجود ولكنّه لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهل يكون موجود ولا يرى؟ ما هذا إلّا تناقض! الثانية : إنّه يقول : إنّ الشيطان يعذّب في النار مع أنّ الشيطان خلق من النار ، فكيف يعذّب الشيء بما خلق منه؟! الثالثة : إنّه يقول : إنّ أفعال العباد مستندة إليهم ، مع أنّ الآيات دالة على أنّه تعالى فاعل كلّ شيء!
فلمّا سمعه البهلول أخذ مدرة وضرب بها رأسه وشجّه ، وصار الدم يسيل على وجهه ولحيته ، فبادر إلى الخليفة يشكو من بهلول ، فلمّا أحضروا بهلول وسئل عن السبب قال للخليفة : إنّ هذا الرجل غلّط جعفر بن محمد (ع) في ثلاث مسائل : الأولى : أنّ أبا حنيفة يزعم أنّ الأفعال كلّها لا فاعل لها إلّا الله ، فهذه الشجة من الله تعالى وما تقصيري؟! الثانية : أنّه يقول : كلّ شيء موجود لا بد أن يرى ، فهذا الوجع في رأسه موجود مع أنّه لا يراه أحد ، الثالثة : أنّه مخلوق من التراب وهذه المدرة من التراب وهو يقول : إنّ الجنس لا يتعذّب بجنسه ، فكيف يتألّم من المدرة؟! فأعجب الخليفة كلامه ، وتخلّص من شجّة أبي حنيفة (٢).
[١٦ ـ ١٧] ويستثير الواحد إنسيّا أو جنيّا فكره بحثا عن الأسباب التي أدّت إلى انحطاط حضارته ، وتخلّفه عن ركب التقدم ، فلا يجد مهما أنعم الفكر والنظر
__________________
(١) التفسير الكبير / ج ٣٠ ص ١٦٠.
(٢) شجرة طوبى / ج ١ ص ٤٩.