عليها حتى النهاية رغم المصاعب والعقبات. بلى. إنّ النتائج الحضارية للرسالة قد لا تظهر في اللحظة الأولى التي يقرر المجتمع فيها الالتزام بقيمها والاستقامة عليها ، لأنّ القيم الرسالية تشبه إلى حدّ بعيد البذرة التي يزرعها الفلّاح في الأرض .. لا بد من الصبر عليها حتى تؤتي أكلها ورعايتها في الأثناء ، ممّا يفرض الاستقامة كأساس في السعي الحضاري ، ووعي هذه القيمة الواقعية من شأنه تثبيت الإنسان على الهدى ، ودفع روح القنوط واليأس من الرسالة عن فكره ونفسه. أترى لو يئس الرعيل الأول من الإسلام حيث لم يكونوا يرون منه سوى التضحيات تلو التضحيات فهل كانوا يبنون حضارته على امتداد المعمورة؟ أو هل كانوا يحقّقون تلك الأهداف والمنجزات العظيمة التي وصلوا إليها بفضل الصبر والاستقامة؟ كلّا .. وما أحوج الأمة الإسلامية وهي تعيش مخاض الصحوة والعودة إلى رسالتها أن تلتفت إلى هذه الحقيقة ، وتعزم السير إليها قدما مهما حاول الأعداء ثنيها عن الطريقة بتهويل التضحيات والمشاكل التي تواجهها كل أمّة ناهضة في السنين الأولى للنهضة ، فإن الاستقامة وحدها التي توصل الأمم إلى موسم الحصاد حيث يكسبون المعطيات بكلّ شموخ واقتدار ، فلا يطعم الماء الغدق إلّا من تذوّق مرارة الاستقامة وتحمّل تحدياتها وجراحاتها.
ولقد توقّف المفسرون عند الشطر الثاني من الآية (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) متسائلين : كيف يعد الله الجن والإنس بالماء الغدق كنتيجة للاستقامة على الطريقة والحال أنّ الجن ليسوا ذوي أبدان إنسية أو يحتاجون إلى الماء فيكون الوعد به مغريا عندهم؟ والجواب :
أولا : إنّنا نفهم من عموم القرآن بأنّ الحاجة إلى الماء مرتكزة في كلّ كائن حي ، لقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) (١) بغضّ النظر عن المقدار
__________________
(١) الأنبياء ٣٠.