ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها ثم يكلّف الصعود مرّة أخرى (١).
وإنّما يسلك المعرض عن ذكر الله عذابا صعدا لأنّ ذكره تعالى وسيلة الاستقامة على الطريقة ، ولا يقدر الإنسان على الاستقامة من دونها ، فإذا ما أعرض أحد عن الوسيلة لم يبلغ النتائج فإذا بالماء الغدق يصبح عذابا صعدا. ولعمري إنّ الأمة الإسلامية حين استقامت على الطريقة سقيت الماء الغدق ، وصارت إلى السعادة والسلام ، ولكنّها حيث افتتنت بالمعطيات والنعم فشلت في الامتحان ، إذ أعرضت عن ذكر ربها وأوليائه فصارت ولا تزال إلى العذاب الصعد.
[١٨ ـ ٢٠] وفي سياق الحديث عن الجن الذين اتخذهم البعض آلهة فأشركوا بهم ، وعبدوهم من دون الله ، يؤكّد ربنا حقيقة التوحيد كهدف رئيس من وراء نسف المزاعم الموغلة في الخرافة حول هذا الخلق من خلقه تعالى ، ممّا يهدينا إلى كون الآية الثامنة عشر آية محورية في سورة الجن.
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)
والأنبياء وكلّ من يسيرون على خطهم ويتبعون منهجهم حيث يقومون لله بالدعوة وينهضون للتغيير يجعلون محورهم توحيده عزّ وجلّ عن أيّ شريك من خلقه ، إلى حدّ التجرد له عن أيّة ذاتية ، يتجرّدون عن الأرض والعشيرة وكلّ قرابة وأيّة علاقة بشيء أو بشخص ، ويسلّمون أنفسهم بصورة مطلقة له ، ويكيّفونها حيث التوافق مع رسالته. وهذا من أهمّ الفوارق بين الدعوات الإلهية الخالصة وبين الدعوات البشرية التي يسعى أصحابها في الغالب إلى الانتفاع منها لصالحهم.
__________________
(١) التفسير الكبير / ج ٢٠ ـ ص ١٦٢.