فرحّلوا ناقة له يحمل ، فركبها ولم يركب محملا قبل ذلك ، فلما أصبح تلا هذه الآية (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها)(١) حتى فرغ منها ، وقال : لقد أنعم الله على هذه الأمة في هذه المحامل بنعمة لا تؤدون شكرها ، وترقّى في رجله الوجع حين قدم على الوليد ، فلما رآه الوليد قال : يا أبا عبد الله اقطعها فإنّي أخاف أن تبالغ فوق ذلك ، قال : فدونك ، قال : فدعا له الطبيب ، وقال له اشرب المرقد (٢) ، قال : لا أشرب مرقدا أبدا ، قال : فقدّرها الطبيب واحتاط بشيء من اللحم الحيّ مخافة أن يبقى منها شيء ، ضمن فيرقى فأخذ منشارا فأمسّه النار وارتكأ له عروة ، فقطعها من نصف الساق ، فما زاد على أن يقول : حسّ حسّ ، فقال الوليد : ما رأيت شيخا قط أصبر من هذا.
وأصيب عروة بابن له يقال له محمّد في ذلك السفر ، دخل إسطبل دوابّ من الليل ليبول ، فركضته بغلة ، فقتلته ، وكان من أحبّ ولده إليه ، فلم يسمع من عروة في ذلك ـ زاد البيهقي كلمة : وقالا : كلمة حتى رجع ، فلما كان بوادي القرى قال : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً)(٣) اللهم كان لي بنون سبعة فأخذت منهم واحدا وبقيت لي ستة ـ وقال البيهقي : وأبقيت منهم ستة ـ وكانت لي أطراف أربعة فأخذت مني طرفا وبقّيت لي ثلاثة ، وإنّك لئن ابتليت لقد عافيت ولئن أخذت لقد أبقيت.
فلما قدم المدينة جاءه رجل من قومه يقال له عطاء بن ذؤيب فقال : يا أبا عبد الله ، والله ما كنا نحتاج أن نسابق بك ، ولا نصارع بك ، ولكنا كنا نحتاج إلى رأيك والأنس بك ، فأما ما أصبت به فهو أمر ذخره الله لك ، وأما ما كنا نحبّ أن يبقى لنا منك فقد بقي.
أخبرنا أبو سعد محمّد بن أحمد بن محمّد ، أنبأ خالي محمّد بن أحمد بن أبي الحسين (٤) ، أنا أبو سعيد بن أبي عمرة (٥) ، أنا محمّد بن عبد الله الأصفهاني ، أنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدّثني سليمان بن منصور الخزاعي ، نا أبو المظفّر المغيرة بن مطرّف ، قال :
وفد عروة بن الزّبير على الوليد بن عبد الملك ومعه خمسة من بنيه ، وقد كان الحجّاج بعث إلى الوليد ببغلة ، فحمل الوليد عليها عروة ، فضربت البغلة أكبر بنيه ، وهو محمّد ، فمات ، ووقعت في أصبع من أصابع رجل عروة الأكلة ، فقيل له : اقطع الأصبع فأبى ،
__________________
(١) سورة فاطر ، الآية : ٢.
(٢) المرقد بالضم ، دواء يرقد شاربه ، وأرقده : أنامه (القاموس).
(٣) سورة الكهف ، الآية : ٦٣.
(٤) في م : الحسن.
(٥) في م : ابن أبي عبدة.