ولما جردت المنية موسى الحمام على هارون ، ومزق ثياب رشد الرشيد ، مخالب المنون ، وخلعت عنه خلع الخلافة ، والسلطان ، وغسلته سماء الدموع بماء الأجفان ، وحنطته بحنوط أعماله ، وأدرجته فى أكفان خصاله وحلالته ، ونقلته من سرور السعود إلى حدود اللحود ؛ فمضى كأن لم يكن شيئا مذكورا ، وكان أمر الله قدرا مقدورا (١).
وقد حكى : أن الرشيد كان رأى مناما أنه يموت بطوس ، فلما وصل إلى طوسى ، وقد غلب عليه الوعك عرف أنه ميت فبكى ، واختار لنفسه مدفنا ، وقال : احفروا لى قبرا فى هذا المحل ، فحفروا له ، فقال : قربونى شفيرة ، فحملوه فى قبة ؛ إلى أن أتى القبر ؛ فسالت عبرته ، وزادت عبرته ، وقال : يا ابن آدم إلى أن تصير ، ولا بد من هذا المصير.
وأمر أن ينزل إلى لحده من يقرأ ختمة فيه ، ففعلوا ذلك ؛ فمات وصلى عليه ابنه صالح ، وألحد فى القبر بطوس لثلاث مضين من جمادى الآخر سنة ١٩١ ه ، وتقدم أن مولده بالرى ، وكانت مدة ملكه ثلاثا وعشرين سنة وشهرين ، ونصف شهر رحمهالله تعالى.
* * *
فصل
لما توفى الرشيد ولى الخلافة ولده محمد الأمين ، وكان مليح الصورة أبيضا فصيحا جميلا بليغا ، سبى التدبير كثير التبذير ، ضعيف الرأى أرعن ، لا يصغى إلى قول المشير.
ولما ولى الخلافة اتخذ اللهو شعارا ، وشرب الخمر خمارا ، وخلع العذار فى العذارى ، واشترى عريب المغنية بمائة ألف دينار ، وأخذ جارية ان عمه إبراهيم المهدى بعشرين ألف دينار ، وعزل أخاه المؤتمن ، وخلع أخاه المأمون ،
__________________
(١) المقصود الآية رقم ٣٨ من سورة الأحزاب ، مدنية.