وأرسل إلى الكعبة المعظمة من جاءه بصحيفة عهد والده له ولأخوته ؛ فمزقها ، وعهد إلى ولد له رضيع سماه الناطق بالحق ، ودعا له على المنابر.
وممن نصح الأمين ، ومنعه من هذا الغدر والنكث خادم ابن ابن حريمة ؛ فقال : يا أمير المؤمنين ، لن ينصحك من كذبك ، ولم يغشك من صدقك ، وإنى أنصحك ولا أصدقك ، ولا أكذب فى نصحك ، لا تجرى العواد على الخلع ؛ فيخلعوك ، ولا تحملهم على نكث العهد ؛ فينكثون عهدك ، وإن الغدر رشوم ، والناكث منكوب مغلوب ، وصاحب الحق مظلوم وجرت العادة بنصرة المظلوم ، وتوجه القلوب إليه ، ورقة النفوس له.
ولذلك تأثير فى الظاهر والباطن ، فأبى الأمين منه ، ونبذ كلامه ، وعمل برأيه السقيم وصمم على ذلك أشد تصميم ، وأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين ، ومعه أربعة آلاف مقاتل.
وأرسل جيشا مع على بن عيسى على أخيه المأمون ، عدتهم أربعون ألفا ، فانهزم عيسى بن على ، وقتل وذبح وتشتت عسكره ، وجاء طاهر بن حسين برأسه إلى المأمون لذلك : و (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ ، غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ)(١) فقوى قلب المأمون لذلك ، وكثر أتباعه ، ومال الناس إليه ، فجمع الجموع ، وسار إلى بغداد لقتال أخيه الأمين ، ولا زال أمر المأمون يحسن بحسن تدبيره ، وإتيان الناس إليه ، ويضعف أمر الأمين بكثرة لهوه ، وتقصيره ، ونفور القلوب عنه ، إلى أن حضر فى بغداد ، وتفرقت عنه جنوده ، وهربوا إلى المأمون ، كل ذلك والأمين فى لهوه وغفلته ، ولعبه مع نسائه بحضرته واحتجابه عن أهل دولته ، إلى أن هجم طاهر بن الحسين ، ودخل بغداد ، فجاء مسرور الخادم إلى الأمين ، وهو فى جنب حوض ماء ، مع جواريه يصيد معهن السمك فى ذلك الحوض.
وكان وضع فى أنف كل سمكة درة نفيسة ، شبكتها بقصب الذهب ، فكل من صادت من جواريه سمكة كانت الدرة التى فى أنفها لصائدتها ، فرفع
__________________
(١) الآية رقم ٢٤٩ من سورة البقرة ، مدنية.