يشغل بالتقريب ثلث المقدّمة ، لا يرد فيه أي ذكر للجغرافيا ، بل وأكثر من ذلك لا يرد فيه أي ذكر للتاريخ ، أو لذلك العلم «الجديد» في «العمران» الذي وضع ابن خلدون مقدّمته قصدا لتفصيل القول فيه. وابن خلدون في تصنيفه للعلوم يفتقر إلى الأصالة ، فهو تارة يسير على النمط اليوناني في صورته العربية ، وطورا يتبع تصنيف «إخوان الصفاء». وهو يقسم العلوم إلى مجموعتين كبيرتين هما «العلوم النقلية الوضعية» و «العلوم الحكمية الفلسفية» ؛ فالمجموعة الثانية تشارك فيها جميع الشعوب ، وهي تراث البشرية بأجمعها ، أمّا الأولى فهي خاصّة بالمسلمين وحدهم وأداتها هي اللغة العربية ، وهو يقصد بها أساسا ما يمكن أن يطلق عليه اسم العلوم الشرعية. ويتّفق تقسيمه بوجه عام مع التصنيف الثلاثي Trivium و «الرباعي» quadrivium للعلوم السائد في العصور الوسطى ، وينطبق في واقع الأمر على نفس ذلك التصنيف الذي نجده في معجم المصطلحات المشهور «مفاتيح العلوم».
وبما أن ابن خلدون يختتم قسم الرياضيات بالكلام على الفلك («الهيئة») فهو يضمّ إلى هذا الأخير «علم الأزياج» الذي يتضمن المعلومات في الجغرافيا الرياضية ؛ وعلى هذا فلا يوجد مجال للكلام على الجغرافيا الطبيعية والوصفية في تصنيف ابن خلدون. وعلى الرغم من ذلك فلم يكن في مقدور ابن خلدون أن يعارض الواقع ، ومن ثم فقد اضطر إلى أن يفرد قسما في مقدّمته ليعرض فيه المذهب التقليدي عند الجغرافيين العرب.
وهذا القسم بدوره مثار لخيبة أمل لا تقلّ عن سابقتها لأنّ مادّته لا تخرج عن نطاق المعلومات المعروفة لنا جيدا ، وهو يمثّل «المقدّمة الثانية» من «الفصل الأوّل» من «الكتاب الأوّل» من مصنّفه في التاريخ (١). ولهذه «المقدّمة الثانية» في الجغرافيا «تكملة» (١٨) يليها «تفصيل الكلام على هذه الجغرافيا». والفصل الأوّل من مقدّمة ابن خلدون مكرّس برمّته لمسائل «العمران» عامّة ؛ وتبحث «المقدّمة الأولى «من هذا
__________________
(١) مما لا شك فيه أن ابن خلدون لم يطلق اسم «المقدمة» على الكتاب المعروف لدينا تحت هذا الاسم ، ولم يعتبره مطلقا كتابا مستقلا ، بل اعتبره دائما «الكتاب الأول» من مصنفه التاريخي «العبر».
(المترجم).