المفرد للبربر من تاريخه قد تمّ الاعتراف به بحقّ كأقيم ما في مصنّفه. ويمكن القول بأنّه لا علماء الأجناس ، ولا علماء الاقتصاد ، ولا علماء الاجتماع قد فرغوا من دراسة ابن خلدون من وجهات نظرهم المختلفة ، كما أنّ كلا من المؤرّخ وعالم الجغرافيا يستطيع الكشف عن الكثير الهام لدى ابن خلدون. وعلى الرغم من ذلك فإنّه يجب القول مرّة ثانية بأنّ ابن خلدون لا يحتلّ مكانة ممتازة في التطور العام للأدب الجغرافي العربي ، كما أنّه لم يترك أي أثر في هذا الميدان على الأجيال التالية له.
أما من ناحية أسلوبه الكتابي فإنّ ابن خلدون أبعد من أن يعدّ نموذجا يحتذى ؛ وكما هو الحال مع جميع معاصريه فإنّه تنعكس فيه بوضوح آثار عصر التدهور التي تبدو في غلبة السجع والمحسنات البديعية والتشبهات والاستعارات المبالغ فيها ، بل إنّ لغة ابن خلدون نفسها لم تسلم أحيانا من الألفاظ العاميّة والإفراط في استعمال الألفاظ المحدثة ، كما أنّها لا تخلو من الأخطاء النحوية ؛ وليس من النادر أن يحيط الغموض ببعض ألفاظه من وقت لآخر. وإذا حدث وأن عدّ ابن خلدون يوما ما مؤلّفا كلاسيكيا بمصر وسوريا فإنّ مردّ هذا إلى التدهور الذي بلغه الأدب العربي حينما ظهرت الطبعة الأولى «للمقدّمة». وقد كفلت له أفكاره الجديدة التي عبّر عنها في لغة مغايرة للغة عصره نجاحا أدبيا دام حينا من الدهر ، ولكن هذه المكانة أخذت تهبط منذ بداية القرن العشرين حينما اتفق العلماء العرب المعاصرون مع الرأي القديم لدى سلين وأماري القائل بعدم اعتباره كاتبا كلاسيكيا ، وذلك رغما من الطرافة الكبرى التي تتمتع بها نظرياته.
ومن خلال سيرة حياة ابن خلدون نستطيع أن نتبين إلى أيّ حدّ ظلّت الروابط الثقافية قائمة بين المغرب ومصر في القرن الخامس عشر رغما من انقسام العالم الإسلامي إلى عدد من الوحدات السياسية ؛ ويبدو أنّه كان باستطاعة العلماء أن ينتقلوا دون أيّ جهد من بلد إلى آخر ، وأن يقيموا أمدا طويلا أو قصيرا في مختلف الأماكن دون الإحساس بتغير كبير في الوسط. وما يصدق على العلماء يصدق أيضا على الرّحّالة العاديين ، فقد ظلّ الاتصال مع الأندلس مثلا قائما طوال القرن الخامس عشر ، وإلى آخر أيام دولة غرناطة ، فاتّجه عدد من الرّحّالة من المشرق صوب الأندلس يدفعهم إلى ذلك مجرّد حب الاستطلاع ، أو كما كان عليه الحال من قبل