ولحق بمرّاكش ، ولزم العالم الشهير أبا العبّاس بن البنّاء (١) الشهير الذكر ، فحصّل عنه سائر العلوم العقلية ، وورث مقامه فيها وأرفع ، ثم صعد إلى جبال الهساكرة ، بعد وفاة الشيخ ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ، ليقرأ عليه ، فأفاده ، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب ، السّلطان أبو سعيد ، (٢) وأسكنه بالبلد الجديد ، والآبليّ معه.
ثم اختصّه السّلطان أبو الحسن ، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه ، وهو في خلال ذلك يعلّم العلوم العقلية ، ويبثّها بين أهل المغرب ، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها ، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه.
ولمّا قدم على تونس في جملة السّلطان أبي الحسن ، لزمته ، وأخذت عنه الأصلين ، والمنطق ، وسائر الفنون الحكمية ، والتّعليميّة ؛ وكان رحمهالله ، يشهد لي بالتّبريز في ذلك.
وممّن قدم في جملة السّلطان أبي الحسن : صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي. (٣) كان يكتب عن السّلطان ، ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتّاب يومئذ ، وصاحب العلامة التي توضع عن السّلطان أسفل المراسيم والمخاطبات ، وبعضها يضعه السّلطان بخطّه.
وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب ، في براعة خطّه ، وكثرة علمه ، وحسن سمته ، وإجادته في فقه الوثائق ، والبلاغة في التّرسيل عن السّلطان ، وحوك الشعر ،
__________________
(١) أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي (٦٥٤ ـ ٧٢٤) يعرف بابن البناء العددي ؛ ولد بمراكش ، وتعلم بها ، وتوفي بها. وقد أخطأ الأستاذ قدري حافظ طوقان في كتابه : تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك ص ٢١٦ ، حيث زعم أنه ولد بغرناطة. وسبب هذا الخطأ أن الأستاذ طوقان يؤرّخ العرب الرياضيين والفلكيين ، ولا يرجع ، عند البحث عنهم ، إلى المصادر العربية التي هي الأصول الأولى لأخبار هؤلاء الأعلام. وتلك بلوى عمّت في زمن يقال إنه عصر النهضة. الدرر الكامنة ١ / ٢٧٨ ، أحمد بابا ص ٦٥ ، جذوة الاقتباس ص ٧٣ ، الاستقصا ٢ / ٨٨ ، مقدمة شرح تلخيص أعمال الحساب تأليف ابن هيدور التازي (نسخة خاصة).
(٢) انظر أخباره في تاريخ ابن خلدون ٧ / ٢٤١ ـ ٢٤٣ ، وشذرات الذهب ٧ / ١٦٧.
(٣) سيأتي حديثه المفصل عن ابن رضوان.