قلت : لأين أوّلا ، فلما رأى شدة الشكيمة في العناد وقلة الإصغاء إلى عرض الحجج ، خاشن وعارض إن رسولكم لمجنون بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ). فإن قلت : ألم يكن لأسجننك أخصر من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) ومؤدّيا مؤدّاه؟ قلت : أما أخصر فنعم ، وأما مؤدّيا مؤدّاه فلا ، لأن معناه : لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني. وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه فيطرحه في هوّة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا ، لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أشد من القتل. انتهى. ولما كان عند موسى عليهالسلام من أمر فرعون ما لا يروعه معه توعد فرعون ، قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) ، أي يوضح لك صدقي ، أفكنت تسجنني؟ قال الزمخشري : أو لو جئتك ، واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام ، معناه : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ انتهى. وتقدّم لنا الكلام على هذه الواو ، والداخلة على لو في مثل هذا السياق في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) (١) ، فأغنى عن إعادته. وقال الحوفي : واو العطف دخلت عليها همزة الاستفهام للتقرير ، والمعنى : أتسجنني حتى في هذه الحالة التي لا تناسب أن أسجن وأنا متلبس بها؟.
ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجده موضع معارضة فقال له : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) ، إن لك ربا بعثك رسولا إلينا. قال الزمخشري : وفي قوله : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) دليل على أنه لا يأتي بالمعجزة إلا الصادق في دعواه ، لأن المعجزة تصديق من الله لمدعي النبوة ، والحكيم لا يصدق الكاذب. ومن العجب أن مثل فرعون لم يخف عليه مثل هذا ، وخفي على ناس من أهل القبلة ، حيث جوزوا القبيح على الله حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات. انتهى. وتقديره : إن كنت من الصادقين فأت به ، حذف الجزاء ، لأن الأمر بالإتيان يدل عليه. وقدره الزمخشري : إن كنت من الصادقين في دعواك أتيت به. جعل الجواب المحذوف فعلا ماضيا ، ولا يقدر إلا من جنس الدليل بقولهم : أنت ظالم إن فعلت ، تقديره : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم. وقال الحوفي : إن حرف شرط يجوز أن يكون ما تقدم جوابه ، وجاز تقديم الجواب ، لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا. ويجوز أن يكون الجواب محذوفا تقديره فأت به. وقول الزمخشري : حتى لزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات ، إشارة إلى إنكار الكرامات التي ذهب أهل السنة إلى إثباتها. والمعجز عندهم هو ما كان خارقا للعادة ، ولا يكون إلا لنبي أو
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٧٠.