(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ). قال أبو عبد الله الرازي : التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليهالسلام من الكلام الأول إليه ، إذ كان لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وفي آبائه كونهم واجبي الوجود لذواتهم ، لأن المشاهدة دلت على وجودهم بعد عدمهم ، وعدمهم بعد وجودهم ، فعند ذلك قال فرعون : ما قال يعني أن المقصود من سؤال ما طلبت الماهية وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا تفيد تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه ، فقال موسى عليهالسلام : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : فعدل إلى طريق أوضح من الثاني ، وذلك أنه أراد بالمشرق : طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب : غروب الشمس وزوال النهار.
وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليهالسلام مع نمروذ ، فإنه استدل أولا بالإحياء والإماتة ، وهو الذي ذكره موسى عليهالسلام هنا بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ، فأجابه نمروذ بقوله : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) ، فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (١) وهو الذي ذكره موسى عليهالسلام هنا بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) : أي إن كنتم من العقلاء ، عرفتم أن لا جواب عن السؤال إلا ما ذكرت. انتهى ، وفيه بعض تلخيص. وقال ابن عطية : زاده موسى عليهالسلام في بيان الصفات التي تظهر نقص فرعون ، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها ، وهي ربوبية المشرق والمغرب ، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر من البحر إلى أسوان وأرض الإسكندرية. وقرأ مجاهد ، وحميد ، والأعرج : أرسل إليكم ، على بناء الفاعل ، أي أرسله ربه إليكم. وقرأ عبد الله ، وأصحابه ، والأعمش : رب المشارق والمغارب ، على الجمع فيهما. ولما انقطع فرعون في باب الاحتجاج ، رجع إلى الاستعلاء والغلب ، وهذا أبين علامات الانقطاع ، فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ). وقال الزمخشري : لما أجاب موسى بما أجاب ، عجب قومه من جوابه ، حيث نسب الربوبية إلى غيره ، فلما ثنى بتقرير قوله ، جننه إلى قومه وظنن به ، حيث سماه رسولهم ، فلما ثلث احتد واحتدم ، وقال : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي).
فإن قلت : كيف قال : أولا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، وآخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ٢٥٨.