يصلح لنا ونتمناه ، وأريد به كثرة ما أوتي ، فكأنه مستغرق لجميع الأشياء. كما تقول : فلان يقصده كل أحد ، يريد كثرة قصاده ، وهذا كقوله تعالى في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ؛ وبنى علمنا وأوتينا للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى. وكانا مسندين لنون العظمة لا لتاء المتكلم ، لأنه إما إن أراد نفسه وأباه ، أو لما كان ملكا مطاعا خاطب أهل طاعته ومملكته بحاله التي هو عليها ، لا على سبيل التعاظم والتكبر. (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) : إقرار بالنعمة وشكر لها ومحمدة.
روي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن ، ومثلها للإنس ، ومثلها للطير ، ومثلها للوحش ، وألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ، ومنبره في وسطه من ذهب ، فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، تقعد الأنبياء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، وتفصيل هذه الأشياء يحتاج إلى صحة نقل ، وكان ملكه عظيما ، ملأ الأرض ، وانقاد له أهل المعمور منها. وتقدم لنا أنه ملك الأرض بأسرها أربعة : مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : بختنصر ونمروذ. وحشر الجنود يقتضي سفرا وفسر الجنود أنهم الجن والإنس والطير ، وذكر المفسرون الوحش رابعا.
(فَهُمْ يُوزَعُونَ) : يحشر أولهم على آخرهم ، أي يوقف متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون ، لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ، أو يكفون عن المسير حتى يجتمعوا. وقيل : يجتمعون من كل جهة. وقيل : يساقون. وقيل : يدفعون. وقيل : يحبسون. كانت الجيوش تسير معه إذا سار ، وينزل إذا نزل. (حَتَّى إِذا أَتَوْا) : هذه غاية لشيء مقدر ، أي وساروا حتى إذا أتوا ، أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له ، أي فهم يسيرون مكنوفا بعضهم من مفارقة بعض. وعدى أتوا بعلى ، إما لأن إتيانهم كان من فوق ، وإما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم : أتى على الشيء ، إذا أتى على آخره وأنفذه ، كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي ، لأنهم ما دامت الريح تحملهم لا يخاف حطمهم ، قاله الزمخشري.
__________________
(١) سورة النمل : ٢٧ / ٢٣.