كانت عادتي هذه معكم ، فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعا؟ فراجعها الملأ بما أقر عينها من قولهم : إنهم (أُولُوا قُوَّةٍ) ، أي قوة بالعدد والعدد ، (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أي أصحاب شجاعة ونجدة. أظهروا القوة العرضية ، ثم القوة الذاتية ، أي نحن متهيؤون للحرب ودفع هذا الحادث. ثم قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) ، وذلك من حسن محاورتهم ، إذ وكلوا الأمر إليها ، وهو دليل على الطاعة المفرطة ، أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ، ومع ذلك فالأمر موكول إليك ، كأنهم أشاروا أولا عليها بالحرب ، أو أرادوا : نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة ، وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن. فانظري ماذا تأمرين به ، نرجع إليك ونتبع رأيك ، وفانظري من التأمل والتفكر ، وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين ، والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى ، أي تأمريننا. والجملة معلق عنها انظري ، فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من اسم الاستفهام.
ولما وصل إليها كتاب سليمان ، لا على يد رجل بل على طائر ، استعظمت ملك سليمان ، وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب ، غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها ، فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً) : أي تغلبوا عليها ، (أَفْسَدُوها) : أي خربوها بالهدم والحرق والقطع ، وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر ، وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب ، وخوف عليهم وحياطة لهم ، واستعظام لملك سليمان. والظاهر أن (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) هو من قولها ، أي عادة الملوك المستمرة تلك من الإفساد والتذليل ، وكانت ناشئة في بيت الملك ، فرأت ذلك وسمعت. ذكرت ذلك تأكيدا لما ذكرت من حال الملوك. وقيل : هو من كلام الله إعلاما لرسوله صلىاللهعليهوسلم وأمته ، وتصديقا لإخبارها عن الملوك إذا تغلبوا.
ولما كانت عادة الملوك قبول الهدايا ، وأن قبولها يدل على الرضا والإلفة ، قالت : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ) ، أي إلى سليمان ومن معه ، رسلا (بِهَدِيَّةٍ) ، وجاء لفظ الهدية مبهما. وقد ذكروا في تعيينها أقوالا مضطربة متعارضة ، وذكروا من حيلها ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية ، وكلامه مع رسلها ما الله أعلم به. و (فَناظِرَةٌ) معطوف على (مُرْسِلَةٌ). و (بِمَ) متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أن الباء متعلقة بناظرة ، وهو وهم فاحش ، والنظر هنا معلق أيضا. والجملة في موضع مفعول به ، وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول