ويلزم من كبها في النار كب الجميع ، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان ، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة ، كما قال : (فَكُبْكِبُوا فِيها) (١) ، فكأنه قيل : فكبوا في النار. والظاهر من كبت ، أنهم يلقون في النار منكوسين ، قاله أبو العالية ، أعلاهم قبل أسفلهم. ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار ، قاله الضحاك. (هَلْ تُجْزَوْنَ) : خطاب لهم على إضمار القول ، أي يقال لهم وقت الكب : هل تجزون.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقول : (إِنَّما أُمِرْتُ) ، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل ، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى. (أَنْ أَعْبُدَ) : أي أفرده بالعبادة ، ولا أتخذ معه شريكا ، كما فعلت قريش ، وهذه إشارة تعظيم كقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) (٢) ، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه. والبلدة : مكة ، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا ، ولا تعارض بين قوله : (الَّذِي حَرَّمَها) ، وقوله عليهالسلام : «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة» ، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه ، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. وفي قوله : (حَرَّمَها) ، تنبيه بنعمته على قريش ، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب ، وأهلك من أرادها بسوء. وقرأ الجمهور : الذي : صفة للرب. وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : التي حرمها : صفة للبلدة ، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة ، أخبر أنه يملك كل شيء فقال : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته ، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص ، وعلى جهة العموم. (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله ، فاعبده كما أمرني ، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) (٣) ، (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) ، إما من التلاوة ، أي : وأن أتلو عليكم القرآن ، وهذا الظاهر ، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة ، وإما من المتلو ، أي : وأن أتبع القرآن ، كقوله : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) (٤). وقرأ الجمهور : وأن أتلو. وقرأ عبد الله : وأن اتل ، بغير واو ، أمرا من تلا ، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر ، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار : وأمرت أن أتل ، أي اتل. وقرأ أبي : واتل هذا القرآن ، جعله أمرا دون أن. (فَمَنِ اهْتَدى) ، به ووحد الله ونبيه وآمن بما جاء به ، فثمرة هدايته مختصة به. (وَمَنْ ضَلَ) ، فوبال إضلاله مختص به ،
__________________
(١) سورة الشعراء : ٢٦ / ٩٤.
(٢) سورة الأنعام : ٦ / ٩٣.
(٣) سورة الحج : ٢٢ / ٧٨.
(٤) سورة يونس : ١٠ / ١٠٩.