ولا ثم (يُنْشِئُ) داخلا تحت كيفية النظر في البدء ، بل هما جملتان مستأنفتان ، إخبارا من الله تعالى بالإعادة بعد الموت. وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك ، فإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه ، صار واجبا مقطوعا بعلمه ، ولا شك فيه. وقال قتادة : (أَوَلَمْ يَرَوْا) ، بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعيد الله الأجسام بعد الموت؟ وقال الربيع بن أنس المعنى : كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر ، حتى إلى التراب؟ وقال مقاتل : الخلق هنا الليل والنهار. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : النشاءة هنا ، وفي النجم والواقعة على وزن فعالة ؛ وباقي السبعة : النشأة ، على وزن فعلة ، وهما كالرآفة والرأفة ، وهما لغتان ، والقصر أشهر ، وانتصابه على المصدر ، إما على غير المصدر قام مقام الإنشاء ، وإما على إضمار فعله ، أي فتنشئون النشأة.
وفي الآية الأولى صرح باسمه تعالى في قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) ، ثم أضمر في قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وهنا عكس أضمر في بدا ، ثم أبرزه في قوله : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ) ، حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه. ودل إبرازه هنا على تفخيم النشأة الآخرة وتعظيم أمرها وتقرير وجودها ، إذ كان نزاع الكفار فيها ، فكأنه قيل : ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي (يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) ، فكان التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. والآخرة صفة للنشأة ، فهما نشأتان : نشأة اختراع من العدم ، ونشأة إعادة. ثم ذكر الصفة التي النشأة هي بعض مقدوراتها. ثم أخبر بأنه (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) ، أي تعذيبه ، (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) رحمته ، وبدأ بالعذاب ، لأن الكلام هو مع الكفار مكذبي الرسل. (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) : أي تردون. وقال الزمخشري : ومتعلق المشيئتين مفسر مبين في مواضع من القرآن ، وهو يستوجبهما من الكافر والفاسق إذا لم يتوبا ، ومن المعصوم والتائب. انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال. (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) : أي فائتين ما أراد الله لكم. (فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، إن حمل السماء على العلو فجائز ، أي في البروج والقلاع الذاهبة في العلو ، ويكون تخصيصا بعد تعميم ، أو على المظلة ، فيحتاج إلى تقرير ، أي لو صرتم فيها ، ونظيره قول الأعشى :
ولو كنت في جب ثمانين قامة |
|
ورقيت أسباب السماء بسلم |
ليعتورنك القول حتى تهزه |
|
وتعلم أني فيك لست بمجرم |
وقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، على تقدير
__________________
(١) سورة الرحمن : ٥٥ / ٣٣.