غرفا ، إما على إسقاط حرف الجر ، أي في غرف ، ثم اتسع فحذف ، وإما على تضمين الفعل معنى التبوئة ، فتعدى إلى اثنين ، أو شبه الظرف المكاني المختص بالمبهم يوصل إليه الفعل. وروي عن ابن عامر : غرفا ، بضم الراء. وقرأ ابن وثاب : فنعم ، بالفاء ؛ والجمهور : بغير فاء. (الَّذِينَ صَبَرُوا) : أي على مفارقة أوطانهم والهجرة وجميع المشاق ، من امتثال الأوامر واجتناب المناهي. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : هذان جماع الخير كله ، الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى.
ولما أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، من أسلم بمكة بالهجرة ، خافوا الفقر فقالوا : غربة في بلاد لا دار لنا ، ولا فيه عقار ، ولا من يطعم. فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدّخر ، ولا تروّى في رزقها ، ولا تحمل رزقها ، من الحمل : أي لا تنقل ، ولا تنظر في ادخار ، قاله مجاهد ، وأبو مجلز ، وعلي بن الأقمر. والادخار جاء في حديث : «كيف بك إذا بقيت في حثالة من حثالة الناس يخبئون رزق سنة لضعف اليقين؟» قيل : ويجوز أن يكون من الحمالة التي لا تتكفل لنفسها ولا تروى. وقال الحسن : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) : لا تدخر ، إنما تصبح فيرزقها الله. وقال ابن عباس : لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ، وقيل : البلبل يحتكر في حضنيه ، ويقال : للعقعق مخابئ ، إلا أنه ينساها. وانتفاء حملها لرزقها ، إما لضعفها وعجزها عن ذلك ، وإما لكونها خلقت لا عقل لها ، فيفكر فيما يخبؤه للمستقبل : أي يرزقها على ضعفها. (وَإِيَّاكُمْ) : أي على قدرتكم على الاكتساب ، وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ، ومع ذلك فرازقكم هو الله ، (وَهُوَ السَّمِيعُ) لقولكم : نخشى الفقر ، (الْعَلِيمُ) بما انطوت عليه ضمائركم.
ثم أعقب تعالى ذلك بإقرارهم بأن مبدع العالم ومسخر النيرين هو الله. وأتبع ذلك ببسط الرزق وضيقه ، فقال : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه ، (وَيَقْدِرُ) لمن يشاء أن يقدره. والضمير في له ظاهره العود على من يشاء ، فيكون ذلك الواحد يبسط له في وقت ، ويقدر في وقت. ويجوز أن يكون الضمير عائدا عليه في اللفظ ، والمراد لمن يشاء آخر ، فصار نظير : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ، وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (١) : أي من عمر معمر آخر. وقولهم : عندي درهم ونصفه : أي ونصف درهم آخر ، فيكون المبسوط له الرزق غير المضيق عليه الرزق. وقرأ علقمة الحمصي : ويقدر : بضم الياء وفتح القاف وشد الدال ، (عَلِيمٌ) : يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.
__________________
(١) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.