ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) (١) ، ومثله : (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢) ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم (يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ) ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا. انتهى. ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : (ما خَلَقَ) إلى آخرها. و (فِي أَنْفُسِهِمْ) : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد. و (بِالْحَقِ) : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب. ألا ترى إلى قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (٣). كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى.
وقال ابن عطية : (إِلَّا بِالْحَقِ) ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك. (وَأَجَلٍ) عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة. ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم. ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة. انتهى.
وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) (٤) دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين. والمستفيد يفهم أولا الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى. وفي (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا) بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولا ، ثم ارتقى إليه ثانيا. وفي (سَنُرِيهِمْ) (٥) أسند إلى المفيد ، فذكر أولا الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعى في (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) (٦) الآية. بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق. وقال أيضا هنا : (وَإِنَّ كَثِيراً) ، و (قَبْلُ) ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) ، وذلك أن هنا ذكر كثيرا بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) ، و (ما خَلَقَ اللهُ). والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر. انتهى ، وفيه تلخيص. ولا
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٨٤.
(٢) سورة فصلت : ٤١ / ٤٨.
(٣) سورة المؤمنون : ٢٣ / ١١٥.
(٤) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.
(٥) سورة فصلت : ٤١ / ٥٣.
(٦) سورة آل عمران : ٣ / ١٩١.