يتم كلامه الأول إلا إذا جعل (فِي أَنْفُسِهِمْ) محلا للتفكر ، وجعل (ما خَلَقَ) أيضا محلا ثانيا.
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك. قال مجاهد : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : حرثوها. وقال الفراء :
قلبوها للزراعة. وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه. وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة. وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله :
ومن ذم الزمان بمنتزاح
وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن. وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء. وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثارا. (وَعَمَرُوها) : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي سكنوا فيها ، أو من العمارة. قال الزمخشري : (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلا ، ولا عمارة لهم رأسا ، فما هو إلّا تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضا ضعاف القوى. (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا. وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ) بالرفع اسما لكان ، وخبرها (السُّواى) ، أو هو تأنيث الأسوإ ، أفعل من السوء. (أَنْ كَذَّبُوا) : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساء ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر. (السُّواى) : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم. ويجوز أن تكون (السُّواى) مصدرا على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبرا أيضا. ويجوز أن تكون مفعولا بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان (أَنْ كَذَّبُوا). وقرأ الأعمش والحسن : السوي ، بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ : (بِالسُّوءِ) (١) ،
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٥٣.