مِمَّا تَعُدُّونَ ، ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ، وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ ، قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ، وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ).
هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات : (تَتَجافى) إلى (تُكَذِّبُونَ). وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً). قال كفار قريش : لم يبعث الله محمدا إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت. ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة.
و (الْكِتابِ) : القرآن. قال الحوفي : (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) خبره. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و (الم) بدل على الحروف. وقال أبو البقاء : (الم) مبتدأ ، و (تَنْزِيلُ) خبره بمعنى المنزل ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل أيضا. ويجوز أن يكون حالا من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف. ويجوز أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ فِيهِ) الخبر ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) حال كما تقدم. ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه. ويجوز أن يكون الخبر (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، و (لا رَيْبَ) حال من الكتاب ، وأن يكون خبرا بعد خبر. انتهى. والذي أختاره أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ ، و (لا رَيْبَ) اعتراض ، و (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الخبر. وقال ابن عطية : (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق بقوله : (لا رَيْبَ) ، أي لا شك ، من جهة الله تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى. والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله : (رَيْبَ الْمَنُونِ) (١). انتهى.
وإذا كان (تَنْزِيلُ) خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى
__________________
(١) سورة الطور : ٥٢ / ٣٠.