الدعوة هو الوسط بين الإفراط والتفريط ، فإذا تخلف متخلف بعد بلوغ الحجة ف (أْمُرْ بِالْعُرْفِ) ثم إذا جهل جاهل إصرارا على جهله (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).
وهكذا يصدق المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) انه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية (١).
فهنا في ختام السورة يؤمر صاحب الدعوة بمن معه ـ وهم بعد في مكة ـ أن يواجهوا تلك الجاهلية العريقة الحميقة بكل سماحة ويسر ، أخذا بالعفو الميسّر ورفضا لكل معسّر إلّا إذا لزم الأمر كما في حقل النهي والأمر ، تغاضيا عما يقبل في عشرة الناس ، دونما تنازل عما قرره الله من شرعته حيث لا تقبل التنازل كما ليس فيها تعاضل.
فالأعضاء عن الضعف البشري ، والعطف عليه ، والسماح معه ، كل ذلك واجب الداعية ، فالتعامل مع مختلف النفوس البشرية بغية هداها يقتضي رحابة صدر وسماحة طبع ، في غير تهاون ولا تفريط في شرعة الله.
ثم الأمر بالعرف هو عرف ذلك الأمر في شرعة الله ، والعرف المأمور به هو المعروف لدى الفطرة والعقلية الإنسانية والشرعة الربانية ، معروفا لا ينكر ولا يتنكر ، وهذه هي الخطوة الأولى في حقل الأمر ، ومن ثم خطوات
__________________
(١) الدر المنثور ٣ : ١٥٤ ـ أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟ قلت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) نعم قال : تعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك ، أقول وقد تظافرت الروايات عنه (صلّى الله عليه وآله وسلم) انه قال مقالته تلك بعد نزول هذه الآية وبمناسبتها.
وفي نور الثقلين ٢ : ١١١ في عيون الأخبار باسناده إلى الحارث بن الولهاث مولى الرضا (عليه السلام) قال : سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول : لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال سنة من ربه وسنة من نبيه وسنة من وليه ـ إلى قوله : وأما السنة من نبيه فمداراة الناس فإن الله أمر نبيه بمداراة الناس فقال : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.