أغوار نفسه وهو يرى خلق الكون ، لا بد وأن يرى له غاية مقصودة ترجع إلى الكون نفسه وأنفس نفيسه وهو الإنسان ، فلو لم تكن حياة أخرى بعد الدنيا لكان الخلق لغوا ، ام لغاية جاهلة قاحلة هي الحياة الدنيا! فكيف إذا هم (يَعْلَمُونَ ظاهِراً) دون كل ظواهرها ، ظاهرا من حيونة الحياة ضئيلا زهيدا قليلا هزيلا ، متبهّجين بها ، مخلدين إليها ، متمتعين بها ، مستزيدين متزايدين بشهواتها وزهواتها ، ملتهين بلهواتها ، كأنها هي الحياة لا سواها (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ).
«هم» الثانية هنا تأكيد أنهم لا سواهم غافلون عن الآخرة ، حيث العالم بكل ظواهرها ، والعالم بباطن لها ام كل باطن لها ، لا بد وان يذكر الآخرة المتلمعة منها.
ولأن الغفلة ليست إلّا عن أمر حاصل ، فلا بد أن العلم بالدنيا كما يحق يضم العلم بحق الأخرى ، فالحياة الآخرة علما بها وتحقيقا لها هي من محاصيل الحياة الدنيا ، حيث النظر الصائب إليها يذكّر الناظر الحياة الأخرى ، والعمل الصالح فيها يحضّر حياة الحيوان في الأخرى.
كل ظواهر الحياة الدنيا محدودة معدودة ، فضلا عن (ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) مهما بدا لأهلها شاسعا ناصعا ، والآخرة هي الحلقة الأخيرة الدائبة في سلسلة النشآت الحيوية ، فكلما بعدت آماد العلوم والأنظار في هذه الحياة ، طليقة عنها إلى حقيقتها الحاضرة والمستقبلة ، واتسعت الآفاق في تلك المطلّعات والنظرات ، كانت حصيلة العلم بالآخرة أزهى وأضحى ، وأصحابها أبصر بالحق الطليق وأبعد عن العمى ، وعلى حدّ
قول الامام علي (عليه السلام) في وصفها : «من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته».
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ