الخلط وتصغير الأجزاء ، والصناعة تعجز عن ذلك الاستقصاء. والطبيعة لا تتناهى مذاهبها فى القسمة والنسبة قوة وفعلا ، والصناعة لا يمكن أن تخرج جميع ما فى الضمير منها إلى الفعل.
فقد بان من هذا أن البياض بالحقيقة فى الأشياء ليس بضوء. ثم لسنا نمنع أن يكون للهواء تأثير فى أمر التبييض ، ولكن ليس على الوجه الذي يقولون ، بل بإحداث المزاج المبيض. (١) ولذلك ليس لنا أن نقول : إن بياض الناطف كله من الجهة التي يقولون ، بل من المزاج ، فإن الهواء يوجب لونا أبيض لا بحسب المخالطة فقط ، بل بحسب الإحالة أيضا. ولو كان مذهبهم صحيحا لكان يمكن أن يبلغ بالشيء الأبيض والملون بشدة الترقيق (٢) حتى يذهب تراكمه إلى أن يشف أو إلى قريب منه ، وهذا مما لا يكون. وأما قولهم : إن الأسود غير قابل للون آخر ، فإما أن يعنوه على سبيل الاستحالة أو على سبيل الصبغ. فإن عنوا على سبيل الاستحالة ، فقد كذبوا ، ومما يكذبهم الشباب والشيب. وإن عنوا على سبيل الصبغ ، فلذلك حال مجاورة لا حال كيفية. فلا يبعد أن يكون الشىء المسود لا يكون مسودا إلا وفيه قوة نافذة متعلقة قباضة. فيخالط ، (٣) وينفذ ويلزم ، وأن يكون ما هو موجود فى الأشياء أبيض (٤) بخلاف ذلك فى طبعه ، فلا يمكنه أن يغشى الأسود ويداخله ويلزمه. على أن ذلك ليس أيضا مما لا يمكن ، فإنه إذا احتيل بمثل الاسفيداج وغيره حيلة (٥) ما حتى يغوص ويتخلل (٦) السواد صبغه أبيض.
وأما المذهب (٧) الثاني فإن ذلك المذهب لا يستقيم القول به إلا إذا فرض الخلاء موجودا وذلك لأن المسام التي يذكرونها لا يخلو إما أن تكون مملوءة من جسم أو تكون خالية. فإن كانت مملوءة من جسم ، فإما أن يكون ذلك الجسم يشف من غير مسام ، (٨) أو تكون له أيضا مسام ، وينتهى لا محالة : إما إلى مشف لا مسام له ، وهذا خلاف قولهم. وإما إلى خلاء ، فيكون مذهبهم يقتضى وجود الخلاء ، والخلاء غير موجود. ثم بعد ذلك فإنهم يقولون : إنه ليس كل مسام
__________________
(١) المبيض : التبيض د ، م ؛ للتبييض ك.
(٢) الترقيق : الرفق م.
(٣) فيخالط : فتخالطه ك.
(٤) أبيض : البيض ك.
(٥) حيلة : ساقطة من م
(٦) ويتخلل : ويحلل د ، ب.
(٧) المذهب : المذاهب م.
(٨) مسام : سام ك.