والعناية. إن فرنسا هي بلاد النهج القويم والتخطيط البديع ، والبلد الذي أخضعت فيه الطبيعة للإنسان ، والوطن الذي روض سكانه حتى يكونوا طائعين لحكامهم. وأمام كل هذا الواقع ، ما كان منه إلا أن أبدى حسرته على ما كانت تعرفه بلاده من نقيض لكل ذلك : «مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله ، فما أحزمهم وما أشد استعدادهم ، وما أتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب ، وما أقواهم على عدوهم ، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين ، إنما ذلك بنظامهم العجيب وظبطهم الغريب ، وإتباع قوانينهم التي لا تنخرم» (١).
وفي الوقت الذي سلم فيه الصفار بتحكم الفرنسيين في مقاليد الأمور ، وحقيقة الواقع تؤيد ذلك ، فإنه قد كان أيضا على إدراك تام بأن ذلك النظام الظاهر للعيان بمعالمه الواضحة ينم عن وجود تخطيط عميق تندرج فيه كل مكونات المجتمع بشكل يجعلها جميعها مسخرة لخدمة الإنتاج. ويكمن هنالك السر العجيب لتلك القوة الخفية التي يلمسها ويحس بها غير الأوربيين عند مشاهدتهم ذلك النظام الذي يعم كل مظاهر الأشياء وجل جوانب الحياة الأوربية. إن الأطفال المهذبين ، وصفوف الأشجار المنتظمة مؤشرات خارجية نابعة في أصلها من وجود نظام اجتماعي يشك فيه الصفار ويخشى أن يكون غير متلائم مع ما هو سائد في بلده المغرب. إذ يبدو للصفار بأنه نظام معقلن ، شديد الفعالية ، وأحكمت كل عناصره لتحقيق غايات اقتصادية بدلا من مقاصد دينية. ولا حاجة لنا إلى القول إن ذلك النظام الاجتماعي قد بدا أيضا لمحمد الصفار متميزا جدا بشموليته وقوته ، إلى درجة أن مجرد التفكير في مجاراته أو الدخول في مافسة معه قد يكون كافيا ليخلق في نفسه مشاعر اليأس (٢).
لقد أتيحت للصفار وهو في أوربا فرصة الإطلالة على عالم آخر ، فشاهد ما يمكن للعقل البشري تحقيقه حينما يفسح أمامه المجال لممارسة قدراته الإبداعية ، غير أن ذلك العالم كان بعيد المنال. صحيح أن هنالك بعض المخترعات في فرنسا التي
__________________
(١) انظر الصفحات اللاحقة من هذا الكتاب.
(٢) حول تأثير الأفكار الأوربية المتعلقة بالتنظيمات في مصر القرن التاسع عشر انظر :
Timothy Mitchell, Colonizing Egypt) Cambridge, ٨٨٩١ (, ch. ١.