ويدفعه جاء قاصدا لذالك ، وبمجرد وصوله يشرع في الفعل ، وهكذا كل مدفع وخدمته. والحاصل كل واحد منهم له شغل معين لا يفعل غيره ، وكل طائفة لها مدفع معين لا تباشر إلا هو. فإذا صاح به كبيره فلا يحتاج أن يأتيه ويقف ويقول له ما أفعل ، أو يذهب اثنان لأمر واحد يقوم به واحد وحده ، أو تذهب جماعة لمدفع واحد ويبقى الآخر لا يذهب إليه أحد ، لأن ذالك كله عطلة وهو خلاف الحزم. فبمجرد ما صاح بهم كبيرهم المذكور ، جاءوا وجبذوا المدافع من طيقانها وعمروها وأخلوها في لحظة ، لأن ذالك كله فعل رجل واحد. ثم عادوا أيضا وعمروا تلك المدافع وأخلوها في لحظة. ولا تسمع مدفعا واحدا ، إنما تسمع كالرعد المتتابع ، ثم عادوا وعادوا ، وكل ذالك في أسرع زمان.
ومدار ذالك كله على الضبط والحزم والاعتناء التام وعدم الغفلة في الأمور. وإلا فليست لهم قوة في أبدانهم ليست لغيرهم ، بل ربما كانوا أضعف من غيرهم في ذالك ، وإنما الذي لهم الاعتناء والترتيب الحسن ووضع الأشياء في محلها ، ويبنون أمورهم كلها على أصح أساس ، ويستعدون للأمور قبل وقوعها ، ولا يعرف حقيقة ذالك إلا من شاهده.
ثم بعد أن شفوا الغليل من ذالك ، نزلنا منه وجعلت فلائكنا تدور بنا في المرسى بين المراكب للفرجة والنزهة. وكلما حاذينا مركبا اصطفت عساكره على ظهره بموسيقاهم للسلام علينا حتى استوعبنا ذالك ورجعنا ، فكان فيها من القراسيل نحو الخمسين. وليس للفرنسيس في هذا البحر الصغير مرسى للقراسيل إلا هذه. وله مراسي أخر في البحر الكبير من الوجه الآخر لأن بره يطل على البحرين معا. وكانت إقامتنا في هذه البلدة يوما كاملا بدون يوم الدخول والخروج ، فخرجنا منها وسرنا لمرسيليا فبلغناها في ست ساعات.
وبالله سبحانه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.